تُعَدّ ضيافة القهوة العربية التي تسمى في شمال سورية بـ"القهوة المرة" من العادات العربية الأصيلة والمتجذرة في التاريخ. لا يمكن لأي عربي أن يستغني عنها في أي مكان يحل فيه وينتقل إليه في ترحاله، وفي أي ظرف أكان جيداً أو سيئاً، فهي جزء من حياته. ولا يزال أبناء القبائل والعشائر السورية يحتفظون بالعادة الأصلية والتقليد المتجذر في صنع القهوة العربية وتقديمها للضيافة والمناسبات حتى داخل الخيم التي يقطنونها داخل مخيمات النزوح. وتجهّز القهوة العربية على مراحل في أوانٍ (معاميل)، منها "المحماس" و"النجر" و"الطباخ" و"الدلة" و"المصب".
تشدك رائحة القهوة العربية "المرة" حين تدخل خيمة رفعات أبو عصري في مخيم "أبو حبة" بمنطقة كفريحمول شمال إدلب، فالنازح من قرية أبو حبه شمال حماه لا يزال يحافظ على عادة تقديم القهوة العربية يومياً لكل زواره، ويؤكد أنه لا يستطيع التخلي عنها رغم ظروف النزوح والتهجير. ويتحدد مكان الاستقبال داخل خيمة أبو عصري في "المضافة" المجهّزة على شكل "بيت شعر" من وبر الماعز، وتضم "المنقل" و"الدلال" و"المهباش" و"المحماس" وباقي "المعاميل".
يقول ممدوح أبو إبراهيم لـ"العربي الجديد": "من أهم دلالات القهوة أنها ترمز إلى الأمان، فمن شرب قهوة المضيف يدخل في حمايته. كما أنها إحدى أدوات طلب حاجة ما، فإذا حل شخص في مجلس راعي القهوة الذي صبّ له الفنجان ووضعه أمامه من دون أن يشربه الضيف، فهذا يدل على الضيف يحتاج إلى شيء، وأنه يجب الاستماع له، فيقول صاحب البيت اشرب فنجانك وحاجتك مقضية، وأبشر. عندها يشرب الضيف فنجانه، ويكشف حاجته التي يحصل عليها غالباً".
ويعلّق زكريا أبو شمسي متحدثاً لـ"العربي الجديد": "يجب أن يصب صاحب الدار القهوة بنفسه لضيوفه، وأن يفعل ذلك في وضع الوقوف، ويمسك بالدلة التي تقدم بها القهوة العربية بيده اليسرى ويقدم الفنجان بيده اليمنى، ولا يجلس أبداً حتى ينتهي جميع الحاضرين من شرب القهوة. ويجب أن تبدأ الضيافة من اليمين عملاً بالسنة النبوية الشريفة، أو بالضيف مباشرة إذا كان من كبار السن أو شيخاً أو أميراً على قومه. والقهوة العربية تعتبر رمزاً لإكرام الضيف وقضاء احتياجات الناس وإغاثة الملهوف. ويمكن أن يحل فنجان القهوة أكبر مشكلة مثل القتل أو السرقة، ويستخدم كأداة لفض النزاعات.
قصص الفناجين
وثمة أعراف لتقديم أبناء القبائل والعشائر السورية القهوة العربية ضمن فناجين مخصصة لـ"الهيف والضيف والكيف والسيف". ولكلّ فنجان رمز ومعنى، ففنجان الهيف يشربه المضيف (المعزب) أو من يقدم القهوة عنده والذي كان قديماً شخصاً مختصاً يحمل اسم (القهوجي) الذي يتفقد مذاق القهوة، ثم يجهزها في فنجان الهيف الذي يقدم للضيف، وهو الأول الذي يقدم للتعبير عن احترام الضيف وتقديره. والفنجان الثالث، وهو الثاني بالنسبة إلى الضيف، فيطلق عليه اسم فنجان الكيف كي يعدل الضيف مزاجه (كيفه)، ويبقى الفنجان الأخير، وهو السيف إذا لم يكتفِ الضيف بالفنجان الأول والثاني، ويعتبر الأقوى ويعني أن الضيف يضم سيفه إلى سيف مضيفه (المعزب) للتحالف معه في السراء والضراء.
ويشير زكريا الى أنّ الضيف قد يعبّر عن اكتفائه بشرب الفنجان عن طريق هزه، إذ ساد هذا العرف عند العرب قديماً حين كانوا يختارون شخصياً للقيام بمهمة القهوجي لا يسمع ولا يتكلم، من أجل الحفاظ على الأحاديث التي تدور في المجلس، على سبيل الأمانة.
التحضير
ويروي هيثم أبو أحمد لـ"العربي الجديد" تفاصيل تحضير القهوة العربية، فيقول: "تحمّص حبات البن النيئة على النار بواسطة المحماس، وتحرك بواسطة عصا طويلة من الحديد تشبه الملعقة. ويستمر تحريك حبات البن حتى يتحول لونها إلى أشقر، ثم يعاد تبريدها بواسطة إناء يسمى المبرادة يصنع غالباً من الخشب. وحين يحصل ذلك توضع حبات القهوة في النجر أو المهباش وتدق حتى تصبح بحجم حبات البرغل، ثم توضع في إناء يحتوي على ماء يسمى الطباخ أو المفوارة ويغلى على النار. وبعدها يضاف إليها البن المطحون وتترك على النار مع التحريك المناسب حتى تتعقد القهوة ويصبح لونها مثل دبس الرمان، ثم تغلى مجدداً وتترك كي تركد فيجري تصفيتها. وبعدها تنقل من الطباخ للدلة حيث يضاف إليها حب الهال المطحون وتغلى على النار فتصبح جاهزة كي تقدم للضيوف".
يضيف أبو أحمد: "نفضل طبخ القهوة العربية على الحطب الذي يضيف لها نكهة خاصة. وتطبخ كمية كبيرة منها، وتوضع في دلّة كبيرة كي تقدم عبر المصب. ومن يعتاد على شرب القهوة العربية، لا يمكن أن ينساها ويفضلها على باقي المشروبات".
قهوة كورونا
وفيما يقوم أبو حميدي بواجب تقديم العزاء بشخص توفي، بعد انتشار فيروس كورونا الجديد، يلاحظ أنّ القائمين على مجالس العزاء يلتزمون تقديم القهوة العربية والشاي بفناجين مصنوعة من كرتون للاستعمال مرة واحدة، بدلاً من فنجان القهوة المصنوع من الكريستال، وذلك للوقاية من الإصابة بفيروس كورونا، إذ يتخذ أهل العزاء احتياطاتهم قدر الإمكان باستعمال معقمات عند الدخول والخروج من خيمة العزاء، والتزام تنظيف أواني الضيافة وتعقيمها بشكل مستمر، وعدم المصافحة للحفاظ على التباعد قدر الإمكان.
وللدلّة التي تقدم بها القهوة العربية أنواع، منها "الحساوية" و"العمانية" و"الرسلانية" و"القرشية". وأقدمها وأثمنها وأجودها البغدادية التي تصنع في العراق، وقد سميت الدّلّة للتعبير عن الأنس الذي يصاحب جلسة شرب القهوة التي يعتبر اليمن أصلها في العالم.