خرقت إسرائيل جميع الأعراف والاتفاقيات الدولية، من بينها تلك التي تحرّم استخدام القنابل الفسفورية نظراً لخطورتها صحياً وبيئياً. وكشفت وزارة الخارجية الفلسطينية عن استخدام القوات الإسرائيلية قنابل فسفورية لقصف مناطق مختلفة من قطاع غزة. وبحسب مصادر طبية فلسطينية، أطلقت إسرائيل العديد من القنابل الفسفورية على منطقة الميناء غربي القطاع، ما أدى إلى إصابة المئات بحالات اختناق، كما نقل عدد كبير منهم إلى المستشفيات، ولوحظت معظم الإصابات بين الأطفال وكبار السن، وخصوصاً المصابين بأمراض تنفسية.
ولم يكن استخدام هذه القنابل محصوراً فقط داخل قطاع غزة، بل استخدمته على أطراف بلدتي الماري والمجيدية في قضاء حاصبيا في جنوب لبنان. في هذا السياق، كشفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" عن استخدام قوات الاحتلال الإسرائيلي الفسفور الأبيض في غزة ولبنان، محذرة من عواقب استخدام هذه الذخائر على حياة المدنيين. واعتبرت أن استخدام إسرائيل الفسفور الأبيض في عملياتها العسكرية في غزة ولبنان يعرّض المدنيين لخطر الإصابة بجروح خطيرة وطويلة الأمد.
وتحققت من مقاطع فيديو جرى التقاطها في لبنان وغزة، في 10 و11 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، على التوالي، تظهر انفجارات جوية متعددة للفسفور الأبيض المدفعي فوق ميناء مدينة غزة، وموقعين ريفيين على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وأجرت مقابلات مع شاهدين على استخدامه في غزة.
وبيّنت المنظمة أن استخدام الفسفور الأبيض في غزة، وهي إحدى أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في العالم، يؤدي إلى تفاقم المخاطر التي يتعرّض لها المدنيون، وينتهك الحظر الذي يفرضه القانون الإنساني الدولي على تعريض المدنيين لمخاطر غير ضرورية.
بدورها، قالت منظمة العفو الدولية إن "مختبر أدلة الأزمات لدينا جمع أدلة توثق استخدام الوحدات العسكرية الإسرائيلية لقذائف الفوسفور الأبيض في قصفها قطاع غزة".
استخدام إسرائيل الأسلحة المحرمة دولياً، ومن ضمنها الفسفور الأبيض، ليس أمراً جديداً بالنسبة إليها. وسبق لها أن استخدمت هذا السلاح في معارك مختلفة، وتحديداً ضد المواطنين العزل في قطاع غزة. وأظهرت تقارير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية أن القوات العسكرية الإسرائيلية استخدمت قنابل الفسفور الأبيض، على الرغم من التحذيرات الدولية.
والقنابل الفسفورية محرمة دولياً بموجب اتفاقية جنيف لعام 1980، التي نصّت على تحريم استخدام الفسفور الأبيض كسلاح حارق ضد البشر والبيئة، إلا أن لإسرائيل تجارب عديدة مع استخدام هذا السلاح.
والقنبلة الفسفورية قنبلة حرارية مدمرة، تحظر القوانين الدولية استخدامها في المناطق المدنية، ويشكل الفسفور الأبيض مكونها الأهم، ومنه أخذت تسميتها الثانية "القنبلة البيضاء"، وتستخدم في الحروب لإحداث حرائق بهدف تطهير مواقع العدو، وإضاءة ساحة المعركة ليلاً، وتمييز الأهداف، كما تُستخدم لإحداث خسائر بشرية واسعة النطاق.
ويُعرّف أستاذ مادة الكيمياء، خالد عيتاني، الفسفور الأبيض بأنه مادة كيميائية مصنعة من الفوسفات الصلب، لها قوام شمعي ورائحة كريهة، تشبه إلى حد ما رائحة الثوم، وعادة ما تكون ذات لون أبيض شفاف تميل إلى الاصفرار، وقد تتخذ لوناً داكناً عند تحطمها. ويقول لـ "العربي الجديد": "تستخدم هذه المادة في العديد من الصناعات، ومن ضمنها الصناعات العسكرية لتصنيع القنابل ذات التأثير المدمر".
ويؤكد أنه عند تعرض الفسفور للأكسجين، أي عند رمي القنابل في الهواء، يؤدي ذلك إلى حدوث تفاعل كيميائي ينتج عنه بعد ذلك توليد طاقة حرارية تتخطى 700 أو 800 درجة مئوية، بالإضافة إلى خروج دخان أبيض كثيف. وبحسب عيتاني، عادة ما تعرف هذه القنابل بقدرتها على إشعال الحرائق، حتى إن تقارير عدة تشير إلى أن وهجها قادر على إشعال النار. كما أن هذه المادة لا تخمد نيرانها بمجرد إلقاء القنبلة، إذ يمكن أن تبقى مشتعلة أو قابلة للاشتعال لأيام عدة، وتتسبب في حدوث حروق وأضرار للبشر بعد فترة وجيزة من إلقاء القنابل.
من جهته، يقول طبيب الصحة غسان فران لـ "العربي الجديد": "استخدام الفسفور الأبيض يعد محرماً نظراً لانعكاساته وتأثيراته الصحية، إذ هو قادر على اختراق جسم الإنسان وحرق الجلد وصولاً إلى العظام". يضيف: "تناولت تقارير علمية عدة مخاطر استخدام هذه المادة، وهي ضمن الأسلحة المحرمة دولياً". ويشرح أنه خلال الساعات الأولى لإلقاء هذه المادة في الهواء، قد تحدث حرائق شديدة لدى ملامستها الجلد أو العينين. وفي مرحلة أخرى، يصبح الأشخاص غير قادرين على التنفس. وقد يؤدي الدخان المتصاعد إلى حدوث حالات اختناق شديدة، ناهيك عن أن دخان الفسفور يؤدي إلى حدوث تهيج في جسم الإنسان". وبحسب فران، فإن الفسفور الأبيض يؤدي إلى حدوث حروق قوية من الدرجتين الثانية والثالثة.
وبحسب مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، فإن التعرض للفسفور الأبيض قد يؤدي إلى فقدان البصر. وتسبّب أبخرة الفسفور الأبيض تهيجاً شديداً وإحساساً بوجود جسم غريب في العين، وهذا يؤدي إلى الإفراط في إفراز الدموع ووميض تشنجي (تشنج الجفن)، وزيادة الحساسية للضوء على المدى القريب، كما يمكن لدخول جزئيات الفسفور الأبيض إلى داخل العين أن يصيب القرنية، وبالتالي حدوث التهابات، وقد يفقد الأشخاص بصرهم نتيجة لذلك.
أما المرحلة الثانية لتأثيرات القنابل الفسفورية، فتبدأ بعد أيام عدة. بالإضافة إلى مشاكل في التنفس، يمكن حصول تشوهات خلقية، وخصوصاً إذ تعرضت النساء لهذه المادة خلال حملهن، كما يؤدي الشعاع إلى حصول تلوث بيئي وانتشار الأمراض السرطانية.
تضيف مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، أن الأسلحة الحارقة، وبغض النظر عن كيفية إطلاقها، تتسبب في معاناة إنسانية كبيرة وحروق مروعة، كما أن علاج الحروق مؤلم بشكل كبير وقد يؤدي إلى حدوث مضاعفات صحية ونفسية.
بالإضافة إلى آثاره المباشرة التي تؤدي إلى التدمير والقتل المباشر والحروقات التي قد لا يكون لها علاج، فإن الفسفور الأبيض، بحسب فران، له تأثيرات طويلة المدى. وأظهرت الكثير من الدراسات أن المناطق التي تعرضت لقصف بالقنابل الفسفورية شهدت زيادة في نسبة الإصابة بأمراض السرطان، وخصوصاً سرطان الجلد، إذ إن المواد الموجودة في القنبلة تلوث التربة والمياه والهواء.
إلى ذلك، يقول طبيب الأمراض الجلدية وليد عيد: "يعرف عن الفسفور بأنه مادة شديدة الاشتعال والحرق، وقد تؤدي إلى حدوث حروقات بالغة في جسم الإنسان تصل إلى حد العظام". يضيف: "ما يزيد من خطورة هذه المادة إمكانية اشتعالها مجدداً، بمجرد أن يلامس جلد الإنسان الهواء، إذ تتفاعل المواد الكيميائية المكونة لها مع الأكسجين. لذلك في حالات عديدة، وعندما يجري نقل الأشخاص المصابين بحروق بسبب إشعاعات الفسفور، وبعد تضميد الجراح وإزالة الضمادات، يمكن أن يشتعل الجلد مجدداً".
ويوضح أنه يتوجب على الطواقم الطبية "التعامل بحذر أثناء مساعدة الأشخاص المصابين بالحروق. كما أن إمكانية معالجة الحروق بشكل تام أمر صعب، لأنها عادة ما تكون في مراحل متقدمة". ويرى أن مخاطر الإصابة بالفسفور الأبيض تحديداً قد تزيد من احتمال حصول تسمم في الأعضاء والدم، وخصوصاً بعد احتراق الجلد بنسبة كبيرة.
يشير العديد من الخبراء إلى أن استخدام هذه الأسلحة يعد عملاً غير قانوني بموجب القانون الإنساني الدولي العرفي والقوانين والمعاهدات الدولية الأخرى (بروتوكول عام 1980 بشأن الأسلحة الحارقة، واتفاقية الأسلحة الكيميائية لعام 1992، والاتفاقية الدولية لقمع الهجمات الإرهابية بالقنابل لعام 1997 وغيرها). وعلى الرغم من ذلك، لا تزال إسرائيل تستخدم هذا السلاح، وقد اتهمت منظمة العفو الدولية إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، بعد استخدام قنابل الفسفور الأبيض في غزة خلال شتاء 2008-2009.
وتشير كل من منظمة العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش"، إلى أن القوات الإسرائيلية استخدمت بشكل متكرر ذخائر الفسفور الأبيض المتفجرة جواً من مدفعية عيار 155 ملم فوق مناطق مأهولة بالسكان في قطاع غزة، وتحديداً عام 2008-2009، وتسببت كل قذيفة تنفجر جواً في نشر 116 قطعة فسفور أبيض مشتعلة في دائرة نصف قطرها يصل إلى 125 متراً من نقطة الانفجار، الأمر الذي يؤدي إلى إصابة عدد كبير من المدنيين. وبحسب تحقيقات أجرتها "هيومن رايتس ووتش"، تسببت هجمات الفسفور الأبيض بإصابة عشرات المدنيين بحروق أو باستنشاق الدخان. وقالت "هيومن رايتس ووتش"، في تقرير لها، إثر استخدام إسرائيل هذا السلاح، إن "هجمات الفسفور الأبيض ألحقت أضراراً بالمباني المدنية، بما في ذلك مدرسة وسوق ومخزن للمساعدات الإنسانية ومستشفى".