تشكل ظاهرة تحويل الحدائق والمتنزهات العامة داخل المدن والمحافظات العراقية إلى استثمارات أحد أوجه الفساد والتلاعب والتواطؤ الإداري والحكومي الذي تقف خلفه أحزاب وجهات سياسية وفصائل مسلحة، كما يؤكد مسؤولو بلديات، ويقول أحدهم لـ"العربي الجديد": "جرى الاستيلاء على 60 حديقة ومتنزهاً عاماً على الأقل في مدن العراق وتحويلها إلى مراكز تجارية مختلفة، برعاية أشخاص يتمتعون بنفوذ، وتحت غطاء الاستثمار في مشاريع كبيرة".
ويجمع هؤلاء المسؤولون على أن المدن العراقية الكبيرة التي تعاني أساساً من تراجع مساحاتها الخضراء ذات الأهمية الكبيرة للسكان الذين تتقلص خيارات تنزههم في الأماكن العامة، لم تعد تطبق قوانين وضوابط التخطيط الحضري.
ويعلّق مسؤول بارز في وزارة البلديات العامة ببغداد، بالقول لـ"العربي الجديد": "جرى الاستحواذ منذ عام 2010 على حدائق عامة ومتنزهات ومساحات خضراء تقع ضمن التصاميم الأساسية للمدن بمحافظات بغداد والأنبار ونينوى وكربلاء وبابل والنجف والبصرة وصلاح الدين وذي قار ومناطق أخرى، واستخدام مواقعها لإنشاء مراكز تجارية عليها ومشاريع أخرى".
يضيف: "يعرض التحايل على القانون حدائق ومتنزهات هذه المدن للزوال، خصوصاً في حال كانت موجودة في مواقع مميزة وسطها، ما يعني أن سعر المتر الواحد من مساحاتها قد يصل إلى 6 آلاف دولار".
ويتحدث مسؤول آخر في وزارة التخطيط ببغداد لـ"العربي الجديد"، عن أن "الأمر لم يعد يقتصر على الحدائق العامة والمتنزهات أو مراكز الألعاب، بل حتى الدوائر الحكومية التي تقع وسط المدن، والتي وضع أشخاص أيديهم عليها بحجة تنفيذ مشاريع تطوير وإعمار، ومحاولة تخفيف الزحمة. وفي حال الاستحواذ على أراضٍ تابعة لمباني الدوائر الحكومية، تنقل المنشآت الحكومية إلى أماكن أخرى بعيدة. وهذا الأمر لا يستطيع أن يفعله إلا سياسي أو مسؤول حزبي أو قيادي في فصيل مسلح".
ويخبر هذا المسؤول بأنه جرى هدم مكتبة عامة في موقع حيوي وسط مدينة الفلوجة، وجرى نقلها إلى أطراف المدينة، قبل تحويل أرضها إلى مشروع تجاري يملكه شخص من أصحاب النفوذ.
واللافت أن قانونيين يرصدون مخالفات عديدة في إجراءات الدوائر الحكومية، ويتحدثون عن تواطؤ الحكومات المحلية في تحويل أراضٍ خضراء إلى مناطق تجارية وصناعية، بينما يؤكد برلمانيون وجود مخالفات واضحة وصريحة في هذا المجال، ويلمحون إلى أنهم سيطالبون هيئة النزاهة بفتح الملف.
يقول المحامي حسين القاضي، لـ"العربي الجديد": "يتعرض التصميم الأساسي للمدن إلى مخالفات قانونية واضحة وصريحة، علماً أنه لا يمكن تغيير غرضه إلا تنفيذاً لمصالح عليا ترتبط بمشاريع تطوير المدن تحديداً، وهو ما لا يحصل، إذ يتعمد أصحاب المشاريع تحويل الأراضي الخضراء الى أغراض أخرى لا علاقة لها بالبيئة ومطالب الناس. ومع تنفيذ المخالفة الأولى تكر سبحة المخالفات وتتعدد في الموضوع ذاته".
يضيف: "وفقاً للتراخيص التي تمنحها سلطات بلديات المحافظات، لا يجب أن تزيد نسبة البناء في الأراضي الخضراء عن 20 في المائة، وتخصص باقي المساحات لإنشاء مشاتل لبيع أو زرع أشجار ونباتات. أما ما يحصل على الأرض فيناقض ذلك بالكامل، ففي محافظة ذي قار مثلاً، تجاوزت مساحات المشاريع المشيّدة ضمن استثمارات طويلة الأمد على مساحات خضراء نسبة 80 في المائة. وهنا كان يجب أن تحاسب مديريات البلديات أصحاب التراخيص، وتطالبهم بتولي إزالة المنشآت المخالفة، وتحذرهم من أنها ستفعل ذلك بنفسها من خلال فرقها إذا لم يحصل هذا الأمر. وهكذا تتحمل هذه الدوائر مسؤولية التواطؤ في ارتكاب هذا المخالفات، والتسبب في تشوّهات كبيرة للمساحات الخضراء".
مخالفات "قانونية"
ويقول نائب محافظ الديوانية التي تبعد 180 كيلومتراً عن جنوبي بغداد، لـ"العربي الجديد": "هناك لبس وخلط كبير في هذا الملف، فهو يحصل غالباً استناداً إلى إجراءات قانونية، إذ لم يستولِ أحد على المناطق الخضراء بطريقة غير شرعية، وإنما سلك كل الطرق القانونية، وموضوع تحويل آليات استخدام الأراضي يتوافق مع القانون ولا يخالفه"، لكنه يستدرك بأن خلل الملف يتمثل في أن بعض من منحوا رخص تنفيذ مشاريع خالفوا الشروط والتعليمات والضوابط، ما يعني أنه كان يجب ملاحقتهم ومحاسبتهم قانونياً وعدم السكوت عن انتهاكاتهم، لكن الدوائر المعنية تلكأت في تنفيذ واجبات محاسبتهم، وتحديداً دوائر البلديات، علماً أن الحكومة المحلية في محافظة الديوانية بادرت إلى تشكيل لجان تحقيق، وأمرت بوقف أعمال تحويل الأراضي الخضراء تحديداً".
وبحسب مطلعين، فإن الأحزاب والجهات السياسية وتحديداً تلك التي تملك نفوذاً وسلاحاً استغلت هذا الملف لتحقيق مكاسب مهمة.
للأحزاب حصراً
ويبلغ مصدر مطلع في بلدية محافظة واسط (جنوب)، "العربي الجديد"، بأن "كل المساحات الخضراء وتحديداً تلك الموجودة في مركز المدينة والمناطق المهمة استحوذت عليها أحزاب وجماعات مسلحة مارست ضغوطاً على الدوائر الحكومية من أجل منحها هذه الأراضي، واستغلت تراخيص الاستثمار. وكل المناطق المحاذية للنهر مُنحت حصرياً إلى أحزاب".
يضيف: "يعرف الجميع أنه لا يمكن تحويل هذه المناطق إلى مشاريع، وأن هذا الأمر حصل من خلال الضغط واستخدام النفوذ. والحقيقة أن الدوائر البلدية لا تستطيع رفض ذلك، ونحن لا ننفي وجود تواطؤ من موظفين في دوائر البلديات، وأن بعضهم فاسدون، ويرتبط آخرون بجماعات وجهات سياسية، لكن حجم تأثيرهم أقل بكثير من تأثير السلاح والنفوذ السياسي".
ويذكر النائب في البرلمان حيدر الجبوري، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "ملف الأراضي الخضراء من أخطر ملفات الفساد، فهو المورد الأكثر أهمية للأحزاب. وقد جرى تحويل هذه المدن إلى مناطق تجارية بالكامل، ما غيّر صورتها الجميلة في مخالفة واضحة للقوانين ومصالح المواطنين. وفي محافظة معينة منحت المنطقة المحاذية للنهر بكاملها لحزب سياسي إسلامي أقام عليها منطقة تجارية. وقد جمعنا معلومات ووثائق تدين كل المتورطين بهذا الملف، وقدمنا بلاغاً إلى الادعاء العام، وسنتوجه إلى هيئة النزاهة لفتح هذا الملف، ونواصل متابعته".