داخل المستشفى الإندونيسي شمالي قطاع غزة، يدخل الحاضرون على رهف خليل سلمان (11 عاماً) التي أصيبت بقصف العدوان الإسرائيلي الأخير الذي سرق طفولتها وثلاثة من أطراف جسدها. يتبادلون معها الحديث والابتسامات، وهي تلتفت إليهم بوجهها الذي لا يزال يحمل شظايا الأسلحة الإسرائيلية، وتبادلهم نفس الابتسامة، وتجيب عليهم بأن "يدها اليمنى، وساقيها سبقتها إلى الجنة".
أمضت رهف يوم إصابتها في السادس من أغسطس/ آب الجاري في حال إغماء، واستيقظت في اليوم التالي في صدمة ولا تنطق بكلمة، فحرصت أسرتها على الوقوف أمام باب غرفتها في المستشفى، ومنع الناس من الدخول لمشاهدتها، ثم طالبت رهف نفسها والدتها منال بأن تسمح لها برؤية الناس، وتبادل الحديث معهم.
في يوم الواقعة المشؤومة تمام الساعة التاسعة ليلاً كانت رهف في الشارع للبحث عن شقيقها قرب المنزل بمخيم جباليا، وجلبه لتناول العشاء. كان المخيم ممتلئاً بالناس الذين كانوا يترقبون احتمال استمرار القصف الإسرائيلي أو توقفه لتأمين احتياجاتهم من الأكل والشرب، ثم هزت أصوات انفجارات المنطقة قرب مسجد محمد عقل.
صُدم الوالدان بالقصف والمجزرة، وخرجا للبحث عن طفلتهما بين الضحايا والمصابين، فلم يجداها. تدخل شباب المخيم لإسعاف المصابين، ونقلهم بشتى الوسائل إلى المستشفى، وقدم سائقون سياراتهم لنقل الجرحى، وبقي الوالدان في الموقع يبحثان عن رهف.
شاهدت الأم نجلها محمد (13 عاماً) مصاباً، فرافقه والده إلى المستشفى، ثم واصلت نفسها مع أبناء عمها البحث عن رهف لمدة ساعتين قبل أن تعلم بوجودها بين المصابين في حال صعبة في المستشفى، "إذ كان وجهها مُغطى بدماء ناتجة من شظايا صاروخ، وباقي جسدها عبارة عن أشلاء"، بحسب ما وصفت والدتها. وبعدما أمضت رهف ساعتين في غرفة العمليات، أخبر الأطباء العائلة أنهم اضطروا إلى بتر قدميها ويدها اليمنى، لتصبح بيدها اليسرى فقط.
بكت والدة رهف كثيراً على طفلتها الصغيرة التي تدرك صعوبة ترعرعها في مجتمع يعيش ظروفاً صعبة. بالنسبة لها كانت رهف طفلة شقيّة ومرحة تحب أن تمازح أشقاءها وعمل مقالب بهم. وكانت تصف حركتها بأنها تشبه فراشة تبحث عن رحيق "تطير" لجلب ما تطلبه منها، ويسعد وجودها الجميع.
تقول الأم، وهي تذرف الدموع، لـ"العربي الجديد": "كل ما فعتله رهف أنها خرجت لإخبار أخيها عن موعد العشاء، وكنا سمعنا في الأخبار أن الجيش الإسرائيلي ينشر على صفحاته فيديوهات لعدم قصفه أماكن وجود مدنيين".
تضيف: "تقتل في غزة أحلام لأطفال يمكن أن يصبحوا علماء ومعلمين وأطباء، وهو ما حصل لابنتي رهف، في حين لا أحد يطالب بالحقوق البشرية لأبناء القطاع، وبينها العيش بكرامة على أرضهم، والدفاع عن هويتهم. ليست الفتاة في المجتمعات العربية مثل الشاب، لكنها تملك لساناً طليقاً وعقلاً نيِّراً، ولديها أمل في الحياة رغم ما كل ما يحصل. سأقف معها حتى آخر يوم في حياتي كي تكون أقوى من خصمها".
من جهتها، تقول رهف لـ"العربي الجديد": "يدي وساقاي في الجنة، وأنا سأنال ثواب الصمود. أريد أن أصبح قدوة للأطفال الجرحى مثلي في سورية والعراق واليمن. شاهدت على الأخبار أطفالاً كثيرين يعانون من أحوال مماثلة لما نعيشه في مدينة غزة، وأنا أكيدة أنني سأكون مع أطفال جرحى في تلك البلدان أطباءً وعلماءً ومهندسين".
تضيف: "شعرت حين أصبت بأن كهرباء دخلت جسدي بسرعة، ولم أستيقظ إلا في المستشفى فقلت الحمد لله، لأنني تعلمت أن أقول ذلك مثل أمي وأبي في السراء والضراء. أريد أن أتابع الدراسة، وعندما تتحسن حالتي سأبدأ في الاعتياد على الكتابة باليد اليسرى التي لم أكتب فيها يوماً".
كانت رهف تنتظر، كما يوضح والدها خليل سلمان، بدء السنة الدراسية الجديدة نهاية أغسطس/ آب الجاري، وكانت ستذهب مع والدتها إلى سوق مخيم جباليا لشراء الزي المدرسي، وكتب مرحلة الفصل السادس الابتدائي. وكانت تقول إنها ستصبح في فصل "كبار المدرسة الابتدائية"، وإنها متحمسة لنشاطها في فريق الإذاعة المدرسية حيث تلقي قصائد أمام زميلاتها.
وقد تلقى والد رهف ووالدتها خلال وجودها في المستشفى نبأ استقبال ابنتهم في تركيا لتلقي علاج كامل على حساب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ما منح الأمل لرهف التي تتحدث عن رغبتها في أن تصبح طبيبة رغم حالتها الصحية، وتتخصص في الجراحة لإجراء عمليات للأطفال، وتقول: "شاهدت على الإنترنت قصصاً بطولية لأشخاص فقدوا أيديهم وأقدامهم، وتابعوا حياتهم. أنا لست الأولى ولن أكون الأخيرة، وسأصبح طبيبة".