مسلسل كرتوني كندي بطلته الطفلة السورية "دنيا" يعيد تجسيد رحلة اللجوء من حلب وصولاً إلى كندا، بكلّ مآسيها وانشغالات أشخاصها. المسلسل فرنسي اللغة، سيبث بالإنكليزية والعربية لاحقاً.
البيت الذي كانت تغنّي له النجوم وينمو الياسمين على نوافذه في أحياء حلب القديمة، دمَّرته الحرب السورية. بيت تسكنه طيبة الحياة وبساطتها وتنتشي حجارته من تاريخ حاضرة حلب. في تلك الحارة وذلك البيت الذي جسَّدته الرسامة والكاتبة والمخرجة الحلبية ماريا ظريف، قضت الطفلة "دنيا" ست سنوات من عمرها بكنف جدِّها "درويش" وجدَّتها "مونة" قبل أن تدمّره قذيفة ذات ليلٍ حالك. في تلك الليلة، كانت دنيا مع جدتها على السطح تفرشان على ضوء القمر مُكتمل الانتفاخ، مربّى الباذنجان. لمَّا استحالت حلاوة الحياة إلى مرارة، وحلب لم تعد حلب، حان موعد التغريبة بحثاً عن بيتٍ بديلٍ يطير الحمام فوقه من دون خوف، ويسهر القمر على شرفته. ذلك البيت تعثر عليه عائلة الجد درويش، في الضفة الأخرى من العالم، في البلد الأبيض، في كنف عائلة مُحِبّة في كندا، هنا تُكمل دنيا حياتها الآن.
دنيا وجدّها وجدّتها وجارتهما المسيحية دبوس والحانوتي عبدو وزوجته المحجبة، كدسوا أجسادهم في حافلة أقلتهم الى الحدود السورية - التركية بعدما التحق بهم على الطريق جوان، عازف البزق. كلٌّ منهم هام في طريق. الجميع تركوا خلفهم أعماراً أثقلتها الذكريات، إنّما كلّ واحد ترك شيئاً أو شخصاً عزيزاً. دنيا تركت عصفورها وصديقها سامي. جدّها الذي يشبه مطرب حلب صبري المدلل، ترك المذياع، لأنّ الحقيبة لم تتسع له. عجوز يهوى الموسيقى كسائر الحلبيين، ينصاع لزوجته التي تحسّبت لجوع الطريق فخيّرته بين ترف الموسيقى وبين حاجة الطعام، فكانت الغلبة للمكدوس والبسطرمة والجبنة والمربى. حبوب البَرَكَة التي دستها دنيا في جيبها قبيل الرحيل، استطاعت في زحمة الألم زرع بسمات على وجوه المنكوبين خلال الرحلة. حبوب تستعملها جدتها في صنع الجبنة الحلبية، سيكون لها مفعول السحر في تذليل كلّ الصعوبات والعقبات التي تعترض طريقهم.
القصة فيها كثير من الخيال والفانتازيا، لكن في المقابل، فيها كثير من الحقيقة والعِبر والعَبرات. شاءت الكاتبة والمخرجة والرسامة ماريا ظريف، أن تختزل كلّ أطفال سورية بتلك الطفلة التي لا يسعها فرح الأرض والتي خُطف أبوها وقُتلت أمها. هذه القصة تمّ إنتاجها بمسلسل كرتوني أو "أنيميشن" يمكن تصنيفه كأول عمل فني موجه للأطفال الغربيين بأسلوب الرسوم المتحركة، يحكي عن الحرب السورية بلغة مشحونة بالعواطف والمشاعر والذكاء والبساطة، ويسلط الضوء من زاوية إنسانية لا سياسية، على التراجديا السورية التي دخلت عامها الحادي عشر.
ماريا ظريف، ابنة مدينة حلب كانت هاجرت إلى كندا عام 2000، ودرست فيها الرسم والمسرح. نهلت من مخزونها البصري والوجداني ومن ذكرياتها ومعايشتها البيئة الحلبية، وأبدعت في تجسيد ورسم شخصيات المسلسل وأماكن التصوير، وفي الإخراج بالتعاون مع المخرج الفرنسي الكندي، أندريه قاضي.
ولدت الفكرة حين كانت موجات اللاجئين السوريين تتوافد إلى كندا؛ خمسون ألف لاجئ فتحت لهم كندا ذراعيها. شركة "توبو ميديا" الكندية تهتم منذ سنوات طويلة بإنتاج محتوى موجه بشكلٍ أساسي للأطفال والشباب. مع وصول اللاجئين، وجدت أنّ مِن المُهم تعريف الشباب الكندي وغير الكندي في العالم بواقع وحال اللاجئين السوريين؛ من هم؟ من أين أتوا؟ ولماذا تركوا بلادهم؟ وكيف وصلوا؟ الرسالة إذا وصلت بشكل صحيح يمكن أن تستبق وتقلل ردود الأفعال والمواقف العنصرية من قبل المجتمعات المُضيفة، وتقلص خطاب الكراهية والتنميط والخوف من اللاجئين.
المُنتجة التنفيذية لشركة "توبو ميديا" جوديث بورغارد، اقترحت على الفنانة ظريف التي تعمل مديرة إبداعية في الشركة منذ 12 عاماً، أن تكتب عملاً فنياً عن اللجوء السوري. بعد قرابة سنتين تجسّدت الفكرة في شكل مسلسل رسوم متحركة. جهات كندية عدة مولت العمل من بينها المحطة التلفزيونية الرسمية الناطقة باللغة الفرنسية في مقاطعة كيببك، التي عرضت العمل على شاشتها وعلى جميع منصاتها الرقمية. حصد المسلسل المؤَلَّف من ثماني حلقات تفاعلاً من المشاهدين في كندا كباراً وصغاراً. طفلة كندية، على سبيل المثال، كتبت رسالة إلى "دنيا" بطلة المسلسل، تقول فيها: "أنا أحبك وتأثّرت جداً لخسارتك بيتك، وحزينة على عصفورك الذي مات، لكنّي سعيدة لأنّكِ وجدتِ بيتاً في النهاية".
جوديث بورغارد واحدة من ثلاث منتجات في شركة "توبو ميديا" وقعت بحب الثقافة السورية الغنية، بفضل هذا المسلسل، إذ أحبت جمالية البيئة السورية، من الحارات القديمة إلى ساحاتها وأزقتها وفناءات المنازل الداخلية، ولفتها أكثر دفء العلاقات الإنسانية بين ناسها وأواصر العائلة. هي تأمل أن تزور هذا البلد حين يتعافى. حين زرنا في "العربي الجديد" جوديث في مكتبها سمعناها تدندن جملة "أنا على ديني جننتيني،على دين العشق حرام والله" من أغنية "يا طيرة طيري يا حمامة" للمطرب السوري صباح فخري.
لكن، هل ستكتفي الشركة بإنتاج مسلسل أنيميشن "دنيا" بنسخته الفرنسية؟ في الواقع الدبلجة إلى اللغة الانكليزية انتهت أو تكاد، وسيسمح ذلك بتوزيع المسلسل في المقاطعات الكندية الإنكليزية وفي العالم. كذلك، سيُترجم للغة العربية في سورية، بأصوات فنانين سوريين. في المستقبل القريب، سيتحَّول المسلسل إلى فيلم سينمائي وإلى كتاب. كلّ تلك الأشكال الفنيَّة للمسلسل ستساهم في تكوين ذاكرة جماعية عن معاناة اللجوء التي مرَّ بها الأطفال السوريون. ذاكرة ليست بالضرورة أن تكون سوداوية ومليئة بالألم والحزن، إذ ربما تكون الطفلة رهف عطايا التي سجلت بصوتها مشاهد "دنيا" وتقيم مع أهلها في مدينة مونتريال منذ خمس سنوات، على شاكلة الطفلة "دنيا" المفعمة بالحياة والأمل والإصرار والإنسانية.
كلّ العمل في كفة، والموسيقى التي كتبها وشارك في عزفها الفنان الحلبي المقيم في باريس فواز باقر، في كفة أخرى. الموسيقى بثَّت روحاً وعوالم جميلة، تكاملت مع الصورة والكلمة حتى ظهر العمل بشكله الأنيق والممتع.