لم يفتر وهج مشروع المهندس التركي كرم دواجي على الرغم من مرور أربع سنوات على تطبيقه. فهو تمكّن من تحويل طاقة الرياح الناجمة عن حركة حافلات النقل بين شطرَي مدينة إسطنبول الأوروبي والآسيوي إلى طاقة كهربائية تغذّي المرافق المجاورة، بالإضافة إلى قياس درجة حرارة الهواء والرطوبة والرياح ونِسب ثاني أكسيد الكربون وشدّة الزلازل المحتمل وقوعها في المدينة.
ومع حصول دواجي على المركز الأول في مسابقة نُظّمت في النرويج في مجال الطاقة المتجددة، بعد عامَين من توسيع فكرته وتأسيس شركة "ديفيسيتيك"، ازدادت هواجس البحث عن الطاقة النظيفة من خلال الاستثمار في البدائل المتاحة. وانتقل الهمّ البيئي إلى معهد "بيلجيك" المهني في ولاية هاتاي التركية الذي يساهم طلابه اليوم، بحسب مصادر "العربي الجديد"، في توفير نحو 50 في المائة من الطاقة الكهربائية التي يحتاجها معهدهم، عبر برنامج تعليمي حول استخدام مواد الطاقة المتجددة، من خلال تركيب ألواح خلايا ضوئية تستخدم الطاقة الشمسية وكذلك عنفات هوائية على سطح المعهد بهدف توليد الطاقة الكهربائية وتوفير مياه ساخنة لمعهدهم.
ثمّ استثمرت قرية "بويوك أجلي" في ولاية مرسين، جنوبي تركيا، الطاقة الشمسية في مبانٍ كثيرة، منها مسجد القرية، قبل أن تنتقل التجربة إلى مطار ولاية أرزنجان، شرقي تركيا، لتوفير أكثر من 50 في المائة من احتياجاته من الكهرباء من خلال الاستفادة من الطاقة الشمسية.
وتلك المبادرات الفردية أتت قبل أن تنحو تركيا عبر مشروعات كبرى إلى الطاقة المتجددة التي تجلّت على سبيل المثال بإنشاء محطة كهرمائية لتخزين الطاقة بالضخّ في ولاية إسبارطة، جنوب غربي البلاد، بالتعاون مع مجموعة "غزخوبا" الصينية ومجموعة "كاف" للبنى التقنية، وكذلك إعلان مجموعة شركات "ألبيرقلر" التركية الاستثمار في مجال الطاقة بالبلاد بقيمة تتجاوز ثلاثة مليارات دولار أميركي، وتوقيع عقد اتفاقيات شراكة مع كبرى شركات الطاقة المتجددة في العالم، ليصل الأمر إلى اختبار أوّل قطار كهربائي في ولاية صقاريا، شمالي تركيا، في العام الماضي، والوعود بإطلاق السيارة الوطنية "توغ" التي تعمل على الطاقة الكهربائية فقط، قبل نهاية العام الجاري.
فهل المسألة هي توفير ثمن الطاقة المستوردة أم هواجس بيئية وتنمية مستدامة؟ ويأتي ذلك ممتداً من توليد الطاقة بالرياح والمياه وأشعة الشمس، إلى استثمار الفضلات، وحتى الرياح المنبعثة من حركة حافلات النقل.
بالنسبة إلى مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في إسطنبول محمد كامل ديميريل، فإنّ بلاده اتّخذت من إنتاج الطاقة الخضراء "خياراً استراتيجياً"، وذلك على الرغم من الآمال المعقودة على اكتشافات الغاز في البحر الأبيض المتوسط في خلال العامَين الأخيرَين. ويوضح ديميريل لـ"العربي الجديد"، أنّ "صحة المواطن أولاً ثمّ تخفيض فاتورة استيراد الطاقة ثانياً" هما محرّكا هذا المشروع الذي تحوّل برأيه إلى "تحدّ" بعد إنتاج أكثر من 13 في المائة من حاجة تركيا للطاقة من تلك الخضراء.
وحول اختلاط مفهوم الطاقة الخضراء أو المتجددة لدى كثيرين، يقول ديميريل إنّ "المفهوم يعني باختصار الحصول على الطاقة، والكهربائية خصوصاً، من دون تلويث أو إصدار غازات ومخلفات صناعية مؤذية للطبيعة والبشر، وذلك عبر محطات الطاقة الكهرومائية والرياح والطاقة الشمسية والطاقة الحرارية الجوفية وطاقة الكتلة الحيوية"، ويلفت إلى أنّ ولاية إزمير التركية، غربي البلاد، تتصدّر إنتاج طاقة الكتلة الحيوية من خلال "استخراج الطاقة من مادة عضوية كانت حيّة إلى وقت قريب وقد خزّنت ضوء الشمس في شكل طاقة كيميائية".
يضيف ديميريل أنّ الخيار والتحدي التركيَّين دفعا الحكومة قبل خمسة أعوام إلى إطلاق مسابقات في هذا المجال، بالإضافة إلى قروض وتشارك واستقدام شركات خارجية. وقد شهدت ولاية قونية، وسط تركيا، في أغسطس/ آب من عام 2017، المسابقة الأولى لإنتاج ألف كيلوواط، قبل أن تعمّم المسابقات وتُخلَق منافسة وتحدّ مع تسهيلات للشركات المحلية كما تلك الأجنبية.
وتأتي قيمة استيراد الطاقة البالغة نحو 50 مليار دولار سنوياً من النفط والغاز في مقدّمة هواجس تركيا نحو إنتاج الطاقة المتجددة والنظيفة، بالإضافة إلى المساهمة في الحدّ من تغيّر المناخ والالتزام بالاتفاقات الدولية، مثل "اتفاقية باريس للمناخ" (2015)، التي صادق عليها البرلمان التركي في العام الماضي ووعد بإطلاق مشاريع تساهم في انضمام تركيا إليها.
ويقول الباحث التركي يوسف كاتب أوغلو، وهو عضو في حزب العدالة والتنمية الحاكم، إنّ بلاده "حصلت على أكثر من ثلاثة مليارات دولار لدعم أنشطة التحوّل الأخضر من خلال الانضمام إلى اتفاقية باريس، بعدما وعدت بالاستمرار بخططها لتعزيز التنمية الخضراء، لأنّ التغيّر المناخي والاحتباس الحراري من القضايا العالمية المرتبطة بمصير البشرية، لذا نرى الحكومة التركية تضع قضية الطاقة النظيفة والبيئة في مقدمة الأولويات لتقود دول المنطقة، علماً أنّها صارت من بين الدول العشر الأولى عالمياً في إنتاج الطاقة الخضراء والتكنولوجيا الخاصة بها".
وبحسب دراسة لمركز تحوّلات الطاقة، فإنّه في حال واصلت تركيا مسيرتها الحالية في تطوير البنى التحتية وزيادة مشاريع إنتاج الطاقة البديلة، فإنّها قد تصل إلى توفير 52 في المائة من حاجتها الإجمالية من الكهرباء بحلول عام 2030، وهو ما يعني توفير عشرات مليارات الدولارات والتقليل من التلوّث الناتج عن النفط والغاز بنسب كبيرة.
كما بلغ إنتاج تركيا من الكهرباء المركّبة، بحسب بيانات شركة توليد الطاقة التركية، نحو 291 ملياراً و552 مليون كيلوواط بالساعة في العام الماضي، أي ما يقارب 95 ألفاً و890 ميغاواط، فيما بلغ استهلاكها نحو 290 ملياراً و856 مليون كيلوواط بالساعة في العام نفسه، وذلك بعد الاستثمارات الضخمة في مجالَي طاقة الرياح والطاقة الشمسية اللتَين حلّت تركيا من خلالهما في المرتبة السابعة أوروبياً في إنتاج الكهرباء، والثانية بعد الصين في مجال الطاقة الكهرومائية، بحسب كاتب أوغلو.
يضيف كاتب أوغلو أنّ بلاده وعلى الرغم من قصر سنيّ تجربة التحوّل للطاقة النظيفة، تهدف إلى إنتاج نحو 10 غيغاواط في عام 2027، مقارنة بـ19 ميغاواط في عام 2002، ثمّ 364 ميغاواط في عام 2008، مشيراً إلى أنّ ولاية شانلي أورفا، جنوب شرقي البلاد، حلّت بالمرتبة الأولى على مستوى الولايات التركية المنتجة للطاقة الكهربائية من خلال مصادر نظيفة، بواقع ثلاثة آلاف و128 ميغاواط من خلال الطاقة الكهرومائية، وإزمير ثانية بمقدار ألف و635 ميغاواط من خلال طاقة الرياح، وأيدين، غربي البلاد، ثالثة في استخدام الطاقة الحرارية بواقع 850.4 ميغاواط، فيما جاءت قونيا بالمرتبة الرابعة بواقع 843 ميغاواط مولّدة من الطاقة الشمسية، وحلّت إسطنبول بالمرتبة الخامسة والأخيرة مع 139 ميغاواط من خلال استخدام الطاقة الحيوية في النفايات.
من جهته، يقول كبير مستشاري السياسة الخارجية والجغرافيا السياسية للطاقة أومود شوكري إنّ تركيا تهدف من خلال خطتها بحلول ذكرى مئوية تأسيس الجمهورية في العام المقبل، للوصول إلى 32 ألفاً و37 ميغاواط من الطاقة الكهرومائية، و2884 ميغاواط من الطاقة الحرارية الأرضية والكتلة الحيوية، و11 ألفاً و883 ميغاواط من طاقة الرياح، و10 آلاف ميغاواط من الطاقة الشمسية، لتبلغ 56 ألفاً و804 ميغاواط من المصادر المتجددة.
ويبيّن شوكري، وهو مؤلف كتاب "دبلوماسية الطاقة الأميركية في حوض بحر قزوين: الاتجاهات المتغيّرة منذ عام 2001"، في تصريحات أخيرة، أنّ بلاده احتلت في العام الماضي المرتبة الخامسة في أوروبا في توليد الكهرباء من مصادر متجددة، وصارت الآن مصدّراً رئيساً لمكوّنات وتكنولوجيا طاقة الرياح، وذلك إلى أكثر من 45 دولة. ويشير شوكري إلى أنّ تركيا احتلت المرتبة 42 في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ في غلاسكو (كوب 26) في العام الماضي، بحسب المنظمتَين البيئيّتَين "جيرمان ووتش" ومعهد "نيو كلايمت"، وقد عُدَّت من بين الدول ذات الأداء المنخفض في تقييم منفصل أُعدّ وفقاً لمعايير انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
ومع أنّ تركيا لم تحرز تقدّماً كبيراً في معالجة تغيّر المناخ، فإنّ بوسعها إيلاء الطاقة المتجددة مزيداً من الاهتمام، لاستخدامها بما يتماشى مع الأهداف البيئية، إذ إنّ تنويع مصادر الطاقة سوف يؤدّي دوراً مهماً في سياسة الطاقة التركية.
لكنّ الخشية من التلوّث تبقى قائمة في تركيا، بحسب مصادر مختصة، بسبب نشاط العمل الصناعي وحركة السيارات بعد أزمة كورونا الوبائية التي سُجّل فيها انخفاض في تلوّث الهواء بنسبة 32 في المائة بحسب تقرير سابق.
وتتزايد مخاوف تلوّث التربة خصوصاً بعد ما كشفه تقرير لمنظمة "غرينبيس" يفيد بأنّ تركيا ما زالت تتصدّر الدول المستوردة للنفايات الأوروبية لإعادة تدويرها، وبأنّ نسبة تلوّث التربة ارتفعت في مكبّ للنفايات في أضنة. ويشرح التقرير أنّ تركيا استوردت 518 ألفاً و80 طناً من المخلفات البلاستيكية من أوروبا في عام 2021، لافتاً إلى أنّ رقابة الحكومة على عملية استيراد النفايات بدلاً من حظرها أمر لا يعطي ثماره. لكنّ مصادر مختصة قلّلت من تأثير التلوّث من جرّاء استيراد النفايات، لأنّها برأيها خالية من مركبات (ديوكسينات وفيورانات) تسبّب الأمراض وتؤثّر على التربة لفترات طويلة.