قبل فترة، صرّح الرئيس الصيني شي جين بينغ، بأن بلاده تهدف إلى تحقيق "الرخاء المشترك" المتمثل في التوزيع العادل للثروة بين أفراد المجتمع، معتبراً ذلك "أمراً أساسياً لتعزيز الرفاهية في إطار دولة اشتراكية حديثة". جاءت تصريحات شي في كلمة ألقاها أمام اللجنة المركزية للشؤون المالية والاقتصادية في الحزب الشيوعي الصيني، ودعا فيها إلى إنشاء نظام يعتني في شكل أكثر إنصافاً بأولئك الذين لم يصبحوا أثرياء.
ويعيد استخدام مصطلح الرخاء المشترك إلى ذاكرة الصينيين خطابات أدلى بها الزعيم الراحل ماو تسي تونغ قبل إطلاق شرارة الثورة الثقافية في ستينيات القرن العشرين، وأطلقها بذريعة التخلص من الطبقة البرجوازية، ما يثير مخاوف رجال أعمال من تكرار شي للتجربة، خصوصاً أن حديثه تزامن مع حملة حكومية شرسة استهدفت قطاعات خاصة عدة، مثل: التكنولوجيا والتعليم والعقارات والتجارة الإلكترونية.
وبالرغم من عدم الوضوح كيف يمكن أن يترجم المصطلح إلى فعل، راجت تكهنات باستهداف شركات كبيرة من أجل حثها على التنازل طوعاً عن جزء كبير من رؤوس أموالها لحساب صناديق سيادية، ما دفع شركة "تينسنت" العملاقة للتكنولوجيا إلى الإعلان أخيراً عن إنشاء صندوق "الرخاء المشترك" بقيمة 50 مليار يوان (7.7 مليارات دولار) للمساهمة في مساعدة أصحاب الدخول المتدنية، وتعزيز التنمية المجتمعية. لكن مراقبين رأوا أن شي لم يذهب إلى حدّ "اقتراح سرقة أموال من الأغنياء لتقديمها إلى الفقراء، على غرار نموذج رواية روبن هود، بل دعا إلى إنشاء نظام عملي يسمح بتوزيع الدخل في شكل عادل بين طبقات المجتمع". واعتبر آخرون أن ذلك غير ممكن بسبب تفاوت الكفاءات والقدرات بين الأفراد، إذ ليس من المنطق مساواة فلاح يعمل في حقل بمهندس يعمل في شركة لتكنولوجيا المعلومات، إلا إذا أراد الرئيس الصيني بالفعل إشعال ثورة ثقافية جديدة.
حملة متجددة
ليست هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها قادة الحزب الشيوعي مصطلح "الرخاء المشترك"، ففي نهاية سبعينيات القرن العشرين، قال الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ إن "هدف الاشتراكية هو الرخاء المشترك، وجعل عدد قليل من الأشخاص أثرياء يساعد في تحقيق التنمية وتعزيز الكفاءة الاقتصادية على المدى البعيد. لكن ثبت لاحقاً أن هذه السياسة تسببت في خلق فجوة كبيرة بين الأغنياء والفقراء، ما أثقل كاهل الحكومات المتعاقبة في معالجة التفاوت الطبقي والمناطقي في الصين، حيث ازدهرت المدن الساحلية في الشرق، في مقابل تراجع مناطق الريف الغربية التي تشهد تنمية غير متوازنة. من هنا يرى محللون أن "خطاب الرئيس الحالي شي يضع حداً للخلل، ويعيد هيكلة الاقتصاد على أساس التوزيع العادل للدخل بما يسمح لأشخاص جدد بأن يصبحوا أثرياء أيضاً، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة أن تتركز الثروات الجديدة في الريف والمناطق التي لم يصل إليها قطار التنمية". ويرى هؤلاء أنه بعدما نجحت الصين في الوصول إلى الكفاءة الاقتصادية بدأت تتجه نحو تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية، باعتباره جوهر الدولة الاشتراكية وأساسها، فضلاً عن تأكيد بعض الدول الرأسمالية هذه القيم، وبالتالي ليس منطقياً أن تتخلف الصين الشيوعية عن ركب الدول الساعية إلى تحقيق هذا المبدأ الاجتماعي.
مخاوف مشروعة
وحول المخاوف التي يثيرها مصطلح الرخاء المشترك، يقول الباحث في معهد "كولون" للدراسات الاستراتيجية، مارتن يوان، إنها "مخاوف مشروعة لدى أصحاب شركات ورجال أعمال كُثر، خصوصاً أن هؤلاء لديهم تجارب سابقة مع استخدام الحزب الشيوعي الإيديولوجيا لقمع القطاع الخاص والهيمنة عليه بذرائع مختلفة". وأضاف في حديث مع "العربي الجديد"، بأن الأيام القليلة المقبلة ستكشف عن الطريقة التي سيتم فيها تطبيق الرخاء المشترك عملياً، وتوقع أن تتضمن اقتطاع أجزاء كبيرة من ثروات الشركات والأشخاص وإيداعها في صناديق تديرها وتشرف عليها الدولة، دون أن تنقل بالضرورة الأموال المحصلة إلى طبقات اجتماعية مهمشة، لأن الخطة تهدف، حسب اعتقاده، إلى فرض الهيمنة على هذه المؤسسات خاصة التكنولوجية التي تملك قاعدة بيانات كبيرة للمستخدمين، الأمر الذي تعتبره بكين مصدر تهديد لسلطتها ونفوذها.
من جهته، يقلل عميد كلية الاقتصاد السابق في جامعة جينان، دونغ يي، من مخاوف الطبقة البرجوازية. ويقول إن "الأمر ليس إلا توجهاً حكومياً يهدف إلى مساعدة الأفراد الأقل حظاً في الحصول على فرصة للثراء، من دون أن يعني ذلك إجبار الأغنياء على التخلي عن ثرواتهم". يضيف متحدثاً لـ "العربي الجديد": "لا تتعارض فكرة الرخاء المشترك مع جمع وتعزيز الثروات، ولن تعود الصين إلى حقب سوداء شهدت إذلال الإقطاعيين وسحلهم في الشوارع وضربهم في الميادين العامة، فقط لأنهم أصبحوا أغنياء أكثر مما يجب". وعن سبل تحقيق ذلك، يقول دونغ يي: "درس الحزب إجراءات عدة سابقاً مثل تعديل أنظمة الضرائب والرعاية الصحية والاجتماعية، علماً أن فرض ضرائب على حد معين من الثروة سيساهم في تقليص تركيز الثروات، وسيدخل مبالغ طائلة في الصناديق السيادية للدولة، ما يسمح بدعم الدولة برامجها لتحسين الرعاية الصحية في الأرياف التي تكبد المواطنين تكاليف باهظة، إلى جانب دعم مشاريع خاصة صغيرة تدر أموالاً كبيرة على أصحابها".
وكان تحرير الاقتصاد الصيني في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، خلق طبقة وسطى تضم حوالي 350 مليون شخص، وساهم لاحقاً في بروز حوالى 5.30 ملايين مليونير تزيد ثروة كل منهم عن مليون دولار.
واستحوذت الصين على نحو 78 في المائة من أصحاب المليارات في القارة الآسيوية العام الماضي، بزيادة 12 في المائة عن العشر سنوات الماضية، وبمتوسط ثروة بلغ 3.9 مليارات دولار للملياردير الواحد. ورغم أن معالجة الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء في الصين خطوة مرحب بها، يحذر أكاديميون من تداعيات ذلك على المجتمع الصيني، سواء على صعيد الفوضى كما حدث خلال الثورة الثقافية، أو على صعيد بروز طبقة برجوازية جديدة من أصحاب الملايين تفاقم الأزمة، وتكرّس المظاهر الرأسمالية في الدولة الاشتراكية.