الدواء في لبنان.. مواطنون يخشون انقطاعه بعد رفع الدعم

03 أكتوبر 2020
داخل إحدى صيدليات لبنان (حسين بيضون)
+ الخط -

لا يُفارق هاجس الموت المواطن اللبناني. فهو إن نجا من كورونا أو انفجارٍ مدمّر أو اشتباكات مسلّحة أو غير ذلك، سيجد نفسه في ورطة جديدة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة. ولعلّ من تداعياتها الأحدث أزمة الدواء وانقطاع العديد من أدوية الأمراض السرطانية والمزمنة (القلب والسكري والضغط)، وأدوية الأعصاب والالتهاب، وبالتالي عدم توفرها في العديد من الصيدليّات، سواء في العاصمة أو خارجها.
وفي ظل تداول أخبار عن تهريب بعض الأدوية إلى العراق والأردن واحتكار شركات أدوية ووكلاء لبعضها، سعياً إلى التحكّم بأسعارها في الفترة المقبلة، يعزو البعض أسباب الأزمة إلى هلع اللبنانيّين من ارتفاع أسعار الأدوية بشكل جنوني، وبالتالي التهافت على شرائها فور إعلان مصرف لبنان عزمه على رفع الدعم عن الدواء المستورد مع نهاية العام الحالي. في المقابل، يصف آخرون الأزمة بأنّها سياسة تقنين وترشيد في توزيع الدواء المستورد.

الدواء اللبناني لن ينقطع
تؤكد رئيسة نقابة مصانع الأدوية في لبنان كارول أبي كرم، أنّ "الأدوية اللبنانية المصنّعة محليّاً لن تنقطع ولن تتوقّف في حال واصلت الدولة اللبنانية تأمين أبسط المقوّمات، سواء لناحية استمرار دعم مصرف لبنان أو تسريع آلية قبول طلباتنا لشراء المواد الأولية". وتقول لـ"العربي الجديد": "واجبنا اليوم أن نكون إلى جانب المواطن، ونؤمّن الدواء بالسعر المناسب والنوعية والكميات المطلوبة. لذلك، لا داعي للهلع، فنحن مواطنون لبنانيّون ولن نقطع الدواء عن أنفسنا"، كاشفةً أنّ "عدد الأدوية المصنّعة في لبنان لعلاج الأمراض المزمنة الأساسية، كأمراض القلب والضغط والسكري والكوليسترول والربو وتلك الجلدية، تقارب الـ1500 دواء.

كما أن بعض هذه الأدوية تعطى لمرضى السرطان، وهي مضمونة وفعالة على غرار تلك المستوردة. والأهم أنّنا نغطّي حاجة السوق من الأمصال بنسبة مائة في المائة". وردّاً على سؤال حول سبب اللجوء إلى الأدوية المستوردة، تجيب: "لا أعرف، لكن هناك سياسات تسويقية مختلفة، إلا أنّ مصانع الأدوية في لبنان ما زالت تساهم في تأمين فرص عمل للشباب اللبناني".
وتشدّد أبي كرم على "أهميّة التمييز بين الأدوية اللبنانية المصنّعة محليّاً وتلك المصنّعة في لبنان بموجب ترخيص، إذ ترتبط سياسة توزيع الأخيرة بالشركات الأم. أما تلك اللبنانية التي نوزعها، فنصرّ على عدم احتكارها أو قطعها عن السوق"، داعيةً كل مواطن أن "يسأل الطبيب أو الصيدلي عن دواء مصنّع في لبنان مماثل أو شبيه بالدواء المستورد، أو من العائلة نفسها، ما سيساهم في الحفاظ على العملة الصعبة داخل البلد وتوفير الدواء لمدة أطول".
وفي وقت تنفي ما يُشاع عن احتكار الدواء، تؤكّد أنّ "التهريب موجود، لكن لا نعرف كيف وأين ومَن يهرّب، فهذه المسألة تقع على عاتق الدولة. لكن هناك سياسة تقنين وترشيد في توزيع الدواء المستورد، من أجل الحفاظ على الكميات لفترة أطول وضمان توزيعها على المرضى كافّة، لا سيّما بعدما أُصيب المواطنون بالهلع وتهافتوا على شراء الأدوية وتخزينها، ما سيؤدّي إلى انتهاء المخزون المخصّص للبنان من قبل الخارج بشكل سريع". 

الدواء في لبنان 1

 

فوضى مرتقبة
يقول نقيب الصيادلة في لبنان غسان الأمين، إنّ "الدواء هو الوحيد الذي حافظ على ثبات سعره، كونه مدعوماً من قبل مصرف لبنان بحسب سعر الصرف الرسمي، أي 1515 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد". ويعزو سبب فقدان بعض الأدوية إلى "تأخّر آلية موافقة مصرف لبنان على استيرادها وتأخّر فتح الاعتمادات، وقد قاربت مدّة التأخير حدود الشهرين، بعدما فقدنا قبل نحو 5 أشهر بعض الأدوية لمدّة لا تتجاوز 20 يوماً".
ويوضح لـ"العربي الجديد"، أنّ "السبب الثاني يعود إلى تصريحات المعنيّين لدى مصرف لبنان حول عدم القدرة على الاستمرار في دعم الدواء نهاية العام الحالي، وهو ما أكده مصرف لبنان. فالدواء سيكون آخر ما سيُرفع عنه الدعم  نهاية العام، ما يعني ارتفاع أسعار الأدوية 5 أضعاف، وبالتالي عجز المواطنين عن شرائها وعجز المؤسّسات الضامنة عن تحمّل هذا الارتفاع، خصوصاً أنّ ميزانيّاتها محدّدة وبالليرة اللبنانية. وهو أمر أثار هلع اللبنانيّين؛ فمَن كان يبتاع علبة دواء شهريّاً، صار يخزّن 5 أو 6 علب منه، ما أدّى إلى إفراغ الصيدليات وتقليص مخزون مستودعات الأدوية، الذي كان من المفترض أن يكفي لمعدّل 6 أشهر، في حين بات اليوم يكفي لشهر ونصف الشهر".

ربّما هناك تهريب لبعض الأدوية، لكنّه ليس السبب الرئيسي للأزمة الراهنة


ويحذّر الأمين من أنّه "مع هذه الحالة، ستبرز أزمة فقدان الدواء في لبنان وسينهار القطاع الصحي والدوائي، لتحلّ مكانه الفوضى والتهريب والتزوير، ما يعيدنا إلى أيامٍ أسوأ من الحرب الأهلية". ويأسف لـ"غياب التنسيق بين المؤسّسات"، مطالباً بـ"تحمّل جميع المعنيّين مسؤوليّاتهم، وعلى رأسهم وزارة الصحة العامّة ومصرف لبنان، من أجل إيجاد الحلول وتأمين الدواء بحسب الإمكانيات". ويقول: "ربّما هناك تهريب لبعض الأدوية، لكنّه ليس السبب الرئيسي للأزمة الراهنة، كون فاتورة الأدوية المستوردة لأول 8 أشهر من هذه السنة كانت أقلّ من فاتورة العام الماضي للأشهر نفسها. كما أنّ الأدوية المقطوعة بغالبيتها هي أدوية أمراض مزمنة (قلب وسكري وضغط)، وأدوية أعصاب، ما يعني أنّ التهريب ليس العنصر الأساسي".
ويؤكّد الأمين أنّ "الصناعة الوطنية تشكّل 7 في المائة فقط من فاتورة استيراد الأدوية في لبنان. وعندما نتحدّث عن فاتورة بقيمة مليار و600 مليون دولار، تشكّل قيمة الاستيراد فيها ما معدّله مليار و400 مليون دولار، ما يعني أنّ الأدوية المصنّعة محليّاً لا تكفي حاجة السوق.

الدواء في لبنان 3

 

والسبب لا يعود لنقص الطاقات البشرية التي يُعدّ لبنان غنيّاً بها، إنّما السياسة الدوائية التي تعتريها الثغرات. يضاف إلى ما سبق غياب أيّ تخطيط لتشجيع صناعة دوائية وطنية وانعدام الدعم المطلوب، سواء لناحية استحداث مختبرٍ مركزي وتأمين مستلزمات التصنيع كافّة، أو تخفيف الضرائب والرسوم لتتمكّن هذه الصناعة من تغطية نحو 60 أو 70 في المائة من الفاتورة الدوائية".

الدواء الأصلي مقطوع
تشير مسؤولة القسم الطبي في حملة "بنك الأدوية الخيري" نادين رشيد، إلى "أنّنا نواجه في قطاع الصيدلة شحّاً في الأدوية، فالمصانع المحليّة لم تتمكّن من إنتاج سوى 30 في المائة من حاجتها، ناهيك عن تداعيات أزمة الدولار وتأخّر الاعتمادات وفيروس كورونا الجديد، ما انعكس سلباً على استيراد الأدوية". وتكشف لـ"العربي الجديد"، أنّ "البعض كان يعتمد على أدوية مهرّبة من تركيا وسورية. لكن مع إغلاق الحدود من جرّاء جائحة كورونا، تقلّصت هذه الإمكانية وبات التهريب معكوساً من لبنان إلى الخارج".
تضيف: "الدواء المقطوع هو الـbrand، أي الدواء الأصلي، أمّا الدواء (الجينيريك)، أي البديل أو الشبيه، فهو متوفّر ولكن بشكل قليل جداً. لكنّنا وصلنا اليوم إلى انقطاعٍ في أدوية القلب، مثل cordarone 200 mg وأدوية سيلان الدم وعلاج تخثّر الدم أو منع السكتة الدماغية وأدوية الجلطات الدموية والرئوية، إضافة إلى بعض أدوية الأعصاب والالتهاب". وتلفت رشيد إلى أنّه "لدى استيراد هذه الأدوية، يتمّ توزيعها على صيدلية واحدة أو صيدليّتين فحسب، وبكمياتٍ غير كافية. كما أنّ بعض الشركات تستورد كمياتٍ قليلة، وبعضها الآخر يحتفظ بكمياتٍ محدّدة لبيعها لاحقاً بأسعار أعلى في حال رُفع الدعم. ونعاني كذلك من مشكلة كبيرة تتمثّل بالأشخاص الذين يخزّنون الأدوية ويأخذونها من أمام مريضٍ محتاج".

همّ إضافيّ
ماذا عن المواطنين؟ يروي نبيل صلّوح، الذي صُرف من عمله منذ أكثر من 9 أشهر، لـ"العربي الجديد"، كيف اضطرّ إلى إدخال ابنه البالغ من العمر 13 عاماً إلى قسم الطوارئ، بعدما تعرّض لمشاكل في الكبد نتيجة عدم قدرته على تأمين دوائه المفقود. ويقول: "ابني يعاني من مرض حمى البحر المتوسط، ويحتاج إلى دواء Colchicine لتنظيم إنزيمات الكبد، لكنّني عجزتُ عن إيجاده على الرغم من أنّ سعره لا يتجاوز 6000 ليرة لبنانية (أربعة دولارات بحسب سعر الصرف الرسمي). كما أنّ والدي مريض سرطان ونؤمّن أدويته بأكملها من تركيا".
حال صلّوح لا يختلف عن حال ربيع، الذي بحث في أكثر من صيدلية وفي مناطق مختلفة قبل العثور على دواء الضغط لوالدته. ويقول لـ"العربي الجديد": "والدتي تحتاج لأدوية مزمنة. وفي حال وُجدت يدّعي الصيدلي أنّها العلبة الوحيدة لديه. وعند إرسال شخصٍ آخر يبيعه علبة أخرى مع تكرار الجملة نفسها. وهذا يعني أنّهم يريدون احتكار الدواء لبيعه لاحقاً بأسعارٍ مرتفعة". ويكشف أنّ دواءً يُدعى "Pariet" لمعالجة آلام المعدة لدى ابنه، تعذّر الحصول عليه بدايةً "وقد بقي مقطوعاً لفترة، قبل أن نحصل عليه بعد أسبوعين من طلبه".
بدورها، حاولت أمينة خضر جاهدة العثور على دواء +Advancis Neuro، من دون أن تجده على الرغم من انخفاض سعره. وتأسف لـ"الحالة التي وصلنا إليها"، قائلةً لـ"العربي الجديد": "بحثتُ في أكثر من صيدلية، علماً أنّني اعتدتُ على هذا الدواء كونه يسكّن آلام اليدين والقدمين ويخفّف من آثار التعب والإرهاق".
أمّا كميل، المريض بسرطان الرئة، فيبدي في حديثه لـ"العربي الجديد"، أسفه لهذا الواقع. يضيف: "أحتاج بشكلٍ دائمٍ إلى إبرة Lovenox 8000 UI anti-xa/0,8 ml لتفادي تجلّط أو تخثّر الدم، فهي ضرورية جداً لحالتي الصحية. لكنّني إمّا أتعذّب كثيراً لأجدها أو لا أجدها على الإطلاق، علماً أنّ الأطباء لا ينصحون بشراء بديلٍ لها".

المساهمون