قبل ثلاث سنوات، لم يتوقع إبراهيم أن يعود إلى منزله بعد الصلاة وهو يحضن رضيعة وجدها ترتجف برداً أمام مدخل جامع قريته في شمال غرب سورية، لتصبح الصغيرة هبة الله قيمة مضافة لعائلته.
أمام أبواب المساجد أو المشافي والمدارس أو حتى على قارعة الطرقات أو تحت الأشجار، يجد السوريون أطفالاً حديثي الولادة متروكين لمصيرهم، في ظاهرة برزت أكثر خلال سنوات النزاع المستمر منذ أكثر من 12 عاماً.
في أحد أيام فبراير/شباط 2020، دخل إبراهيم عثمان (59 عاماً) إلى منزله وهو يحمل الطفلة التي عثر عليها ملفوفة بغطاء على باب جامع قريته حزانو في ريف إدلب الشمالي.
نادى إبراهيم زوجته قائلاً "أحضرت لك هدية"، قبل أن يطلب من طبيب معاينة الطفلة ليتبين أن عمرها لا يتجاوز بضع ساعات فقط، ويُرجح أنها ولدت في الشهر السابع من الحمل. ويقول: "قررت أن أربيها لأنها طفلة لا ذنب لها".
تعلق إبراهيم وزوجته بالطفلة التي أطلقا عليها اسم هبة الله. ويتذكر "في أحد الأيام، بكت طيلة الليل وكنت أبكي على بكائها"، إلى أن وجد طريقة لتهدئتها فبات يضعها في السيارة ويتجول بها في طرقات القرية حتى تتوقف عن البكاء.
تقدّم إبراهيم بطلب للتكفّل بتربية الطفلة أمام السلطات المحلية في إدلب التي تمنع التبني، على غرار كافة المناطق السورية على تعدد السلطات فيها.
في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري في إدلب، يُسجل الطفل مجهول النسب بحسب المنطقة التي عُثر عليه فيها، ويُمنح معلومات شخصية وهمية، مثل الشهرة واسمي الوالدين.
تبلغ هبة الله اليوم ثلاث سنوات، وقد كبرت بين أولاد إبراهيم وأحفاده وباتت جزءاً لا يتجزأ من عائلته حتى "أنها مدللة أكثر من الأطفال الآخرين"، على حد قوله.
يجهش إبراهيم بالبكاء حين يروي قصة الطفلة الصغيرة التي تناديه "جدو" مثلما يفعل أحفاده. ويروي أنه أوصى أولاده في حال وفاته بشكل مفاجئ أن "ترث هبة الله" كما يرثون، وإن كانت لا تحمل اسم العائلة.
ويضيف: "أشكر كل شخص يجد طفلة ليس لها أحد ويؤويها".
"الحرب هي السبب"
ليست ظاهرة التخلي عن الأطفال جديدة في سورية، لكن الحرب وتداعياتها فاقمتها، وفق تقرير بحثي ومسؤولين محليين.
ويقول المسؤول في الشؤون المدنية في إدلب عبدالله عبدالله لـ"فرانس برس": "دفعت ظروف الحرب القاسية الإنسان لأن يتخلى عن فلذة كبده".
ويشير إلى أن مجهولي النسب يُرسلون إلى دور الأيتام، حيث يبقون فيها أو يتكفل بهم أحد الأشخاص بشروط، بينها أن يكون متزوجاً لضمان أن ينشأ الطفل ضمن أسرة، وأن يتمتع بقدرة مادية للإنفاق عليه، وأن "يكون من أصحاب السمعة المشهود لها".
منذ إنشائه عام 2019، استقبل مركز "بيت الطفل" 26 طفلاً حديثي الولادة تُركوا في أماكن مختلفة، بينهم تسعة عام 2023 وحده، وفق ما يقوله مدير البرامج فيصل الحمود لـ "فرانس برس".
يستعيد الحمود أصعب اللحظات عام 2021 حين استقبل المركز طفلة، لا يتجاوز عمرها بضع ساعات وُجدت تحت شجرة زيتون حين كانت "قطة تهرش وجهها".
ويقول: "كانت الدماء تسيل من وجهها، قبل أن يهتم المركز بعلاجها حتى تكفلت أسرة باحتضانها.
ويقع على عاتق المركز تقييم حال الأطفال في أسرهم الجديدة "لضمان عدم الاتجار بهم أو تعرضهم لأي خطر"، وفق الحمود الذي يشكو نقص الدعم لقطاع حماية الأطفال. ويرى أن "الحرب هي السبب الأول لما وصل إليه السوريون".
ويضيف: "الطفل ليس له أي ذنب، إنما هو ذنب الحرب والعائلات (...) هؤلاء الأطفال هم ضحايا" ويجدر التعامل معهم كباقي أفراد المجتمع.
الفقر وانعدام الأمن ونقص المأوى
أحصى مركز سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، الذي يوثق انتهاكات حقوق الإنسان في سورية ومقره الولايات المتحدة، العثور على أكثر من مائة طفل حديث الولادة في 2021 و2022 في مناطق مختلفة. لكنه اعتبر أن الرقم لا يعكس الواقع مقارنة بحجم الظاهرة.
ويوضح المركز لـ"فرانس برس": "جرى توثيق حالات قليلة لأطفال تمّ التخلي عنهم" قبل اندلاع النزاع، لكن الأرقام ارتفعت "بشكل هائل" خلال الحرب.
وعدّد أسباب عدة تدفع بالوالدين، خصوصاً النازحين منهم، للتخلي عن أطفالهم بينها الفقر وانعدام الأمن ونقص المأوى وغياب الاستقرار، والزواج المبكر.
أفادت إحدى العاملات في مجال حماية الطفل في إدلب، وفق تقرير للمركز، بأن عشرين في المائة من الحالات التي وثقتها ناتجة عن تعرّض "النساء لابتزاز جنسي أو علاقات غير شرعية".
ووثق المركز ومسؤولون محليون العثور على أطفال في أماكن متنوعة، منهم من كان مريضاً أو عارياً أو من ترك ملفوفاً بغطاء.
وفي مناطق سيطرة النظام السوري، أفاد المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي زاهر حجو "فرانس برس" عن تسجيل 53 طفلاً، 28 ذكراً و25 أنثى، جرى التخلي عنهم في الأشهر العشرة الأولى من 2022 في محافظات عدة.
وأصدر بشار الأسد بداية 2023 مرسوماً لتنظيم شؤون الأطفال مجهولي النسب، تضمن تحديث هيئة سميت "بيوت لحن الحياة" مخولة قانوناً كل ما يتعلق بهؤلاء الأطفال.
ويُعد الطفل مجهول النسب، وفق المرسوم، "عربياً سورياً" ومسلماً، كما يعتبر مكان العثور عليه مكان ولادته.
ونشرت وزارة الداخلية السورية مراراً حالات عثور على أطفال بينهم طفلة عثر عليها في حديقة في حلب، وأخرى وُجدت "مرمية بين الأعشاب" في حقل قمح في حماة، وثالثة كانت ملقاة في "بئر" في حمص.
وفي شتاء 2022، أعلنت وزارة الداخلية العثور على طفلة عارية لا يتجاوز عمرها الساعات في أحد بساتين ريف دمشق، لكنها كانت حينها "متوفاة".
(فرانس برس)