في أواخر عام 2021، راح اللبنانيون يتهافتون على مراكز الأمن العام للحصول على جوازات سفر، ما تسبّب في فوضى. فاستحدث الأمن العام منصّة خاصة لتنظيم تلك العملية، لكنّ الضغط الكبير استوجب تعليق العمل فيها أخيراً.
عادت قضية جوازات السفر إلى الواجهة في لبنان، عقب إعلان المديرية العامة للأمن العام في السابع والعشرين من إبريل/ نيسان المنصرم وقف العمل بالمنصّة الإلكترونية المخصّصة لتقديم طلبات استخراج الجوازات وتجديدها، بعدما شارف مخزونها على النفاد بسبب الطلب الهائل عليها في حين لم يؤمّن التمويل اللازم لسدّ النقص. وفي بلدٍ يطمح نصف سكّانه إلى الهجرة، تبيّن نتائج مسحٍ أعدّته الشبكة البحثية "الباروميتر العربي" ونُشر الشهر الماضي، أنّ "اللبنانيّين هم الأكثر تشاؤماً إزاء مستقبل بلدهم الاقتصادي وسط الأزمات والأوضاع المعيشية السيئة".
وكانت المديرية العامة للأمن العام قد أوضحت في بيانها الصادر في أواخر إبريل الماضي أنّه "حتّى تاريخه، لم يتمّ إيفاء الشركة المتعاقدة قيمة العقد الموقع، ما أدّى إلى تأجيل تسليم الكمية المطلوبة. بناءً عليه، اضطرّت المديرية إلى وقف العمل بالمنصّة، حفاظاً على مصداقية الأمن العام أمام المواطنين لعدم منحهم مواعيد جديدة دون إمكانيّة استقبالهم، وذلك لحين قيام المعنيّين بإجراء اللازم وتأمين الأموال المطلوبة".
لكنّه بحسب آخر مستجدّات القضية، كشف المدير العام للأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، في حديث إلى أحد المواقع الإخبارية الإلكترونية أخيراً، أنّه تواصل "يوم الجمعة الفائت مع وزير المال يوسف خليل، وأكّد له أنّ الأمور (...) شارفت على الانتهاء، واعداً بتحويل الأموال بعد عيد الفطر". أضاف إبراهيم: "مع العلم أنّ وزارة المال طلبت منّا تعديل بعض البنود مع الشركة بعدما ارتفعت قيمة العقد من 22 مليار ليرة لبنانية (نحو 14.5 مليون دولار أميركي بحسب سعر الصرف الرسمي، ونحو 830 ألف دولار بحسب سعر صرف السوق الموازية) إلى 300 مليار ليرة (نحو 198 مليون دولار بحسب سعر الصرف الرسمي، ونحو 11.3 مليون دولار بحسب سعر صرف السوق الموازية) بسبب الفارق في سعر صرف الدولار". وتابع: "قمنا بما علينا فوراً، ومع ذلك أخذت الأمور وقتاً طويلاً وغير مبرّر. وقد قلت لوزير المال: حاجي تاخدونا وتجيبونا وتضيّعوا المزيد من الوقت".
ووفق مصادر "العربي الجديد"، فإنّ "الدولة اللبنانية تواصل عملية التسويف والمماطلة، سواء لناحية آلية الدفع للشركة المعنيّة أو الاتفاق على سعر صرف الدولار الأميركي في ظلّ تعدّد أسعار الصرف مقابل الليرة اللبنانية، ضاربةً عرض الحائط بحقّ أساسيّ آخر من حقوق الإنسان في لبنان". فأزمة الجوازات التي تفاقمت منذ بدء الأزمة الاقتصادية والمالية، وضعت اللبنانيّين في مهبّ الريح، سواء الطامحين إلى الهجرة والهروب من الوضع المعيشي الصعب، أو الباحثين عن لقمة عيشٍ كريمة من خلال وظيفة خارج حدود الوطن.
ووفقاً للبنك الدولي، دفع الانهيار الاقتصادي غير المسبوق في لبنان وانعدام الأمن وتدهور الخدمات العامة الأساسية، عدداً كبيراً من العائلات والشباب إلى الهجرة.
لا أحد ممنوعاً من السفر
يوضح رئيس تحرير مجلة الأمن العام، العميد منير عقيقي، لـ"العربي الجديد" أنّ "المديرية أوجدت المنصّة بهدف وضع حدّ لطوابير الانتظار أمام مراكز الأمن العام ودوائره، لكنّ الطلب بقي متزايداً وغصّت المنصّة بالمواعيد التي تمتدّ حتى إبريل/نيسان 2023 والتي يغطّيها المخزون الحالي (من الجوازات)، على أن تشمل إصدار 200 ألف جواز سفر، في انتظار تأمين كميات جديدة".
وإذ يأمل عقيقي "حلّ الأزمة في غضون أسبوع ووقف المهزلة الحاصلة، لا سيّما أنّنا أنجزنا كلّ الإجراءات الإدارية لطلب كميات إضافية منذ يوليو/ تموز 2021"، يشدّد على أنّ "جواز السفر حقّ طبيعي يضمنه القانون وهو مستند سيادي للبنان، بالتالي لا يجوز أن يكون حقّ الناس لعبة في هذا المجال. كذلك هو يشكّل أحد إيرادات خزينة الدولة"، مؤكداً أنّه "بمجرّد مبادرة الدولة إلى دفع المبلغ المطلوب، سوف نستأنف العمل بالمنصّة، ومن الممكن أن ننجز أعداداً أكبر قد تصل إلى ثلاثة آلاف جواز سفر يومياً".
وعن إمكانيّة تجديد جواز السفر القديم عبر مهره بالأختام، يلفت العميد عقيقي إلى أنّ "ذلك غير ممكن، فنحن ملتزمون بالمعايير الدولية التي تنصّ عليها المنظمة الدولية للطيران المدني (إيكاو) والتي تمنع تجديد الجوازات لأنّ المعطيات والبيانات الشخصية وصلاحية الجواز لا يظهرها سوى الكود (الرمز) التعريفي".
ويربط عقيقي الشروط التي سبق أن وضعها الأمن العام للحصول على جواز سفر بـ"الظروف الاستثنائية التي أجبرتنا أحياناً على إعطاء الأولويّة للأشخاص المضطرّين إلى السفر. وهي ليست شروطاً تعجيزيّة إنّما تسهيليّة، ولن تكون لو أنّنا نعيش ظروفاً عادية"، مشدّداً "فنحن لا نمنع أحداً من السفر". يضيف عقيقي أنّه "في وقت يستطيع المغتربون فيه تجديد جوازات سفرهم في الخارج، يأتي بعض منهم إلى لبنان كون الكلفة أقلّ بكثير. وبالتالي يحجز هؤلاء مواعيد عبر المنصّة، الأمر الذي يتسبّب بدوره في زيادة الضغط وتأخير مواعيد مواطنين آخرين مقيمين هنا".
وكانت مراكز الأمن العام قد شهدت ازدحاماً يوميّاً وإقبالاً كثيفاً على جوازات السفر، دفع المديريّة إلى تحديد العدد اليومي للطلبات، ثمّ اعتماد المنصّة المذكورة مطلع عام 2022، فحصل بعض المواطنين على مواعيد متأخّرة جداً.
سجناء في جهنّم
وفي حين يُعَدّ الحصول على جواز سفر حقاً مكرّساً في الدستور اللبناني، أثار قرار وقف تلقّي طلبات جديدة ردود أفعال غاضبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، استنكرت "انعدام كلّ شيء" في لبنان، وقد أشار أحد الناشطين "أصبحنا رسميّاً سجناء في جهنّم"، فيما علّق آخر "أهلاً بالإقامة الجبرية في الجحيم". وثمّة من طرح علامات استفهام حول احتمال أن تدخل تسلك جوازات السفر "بازار السماسرة والسوق السوداء".
غنى الجردي من الذين قدّموا طلباتهم قبل أيام من إغلاق المنصّة، تقول لـ"العربي الجديد": "لم أكن أنوي تجديد جواز سفري، لكنّني عندما علمتُ باحتمال انقطاع الجوازات، بادرتُ إلى ذلك من باب الاحتياط فقط. لكنّني للأسف لم أتمكّن من الحصول على موعد". وتأسف الشابة المتخصّصة في مجال علم النفس، لـ"عدم قدرة اللبناني على مغادرة بلده. لقد صرنا سجناء هنا"، متسائلة: "لمَ لا يصار إلى تيسير أمور المواطنين؟ ثمّة من يرتبط مستقبله ومعيشته بجواز سفر".
من جهتها، تخبر آية اسكندر "العربي الجديد" أنّها عانت الأمرّين للحصول على جواز سفرٍ يخوّلها السفر إلى دولة خليجيّة تلقّت منها عرض عمل في مجال المحاسبة. فهي تردّدت، قبل إنشاء المنصّة، نحو عشر مرات على أحد مراكز الأمن من دون جدوى، بحسب ما تقول، "قبل أن أقصد المركز الرئيسي وأقدّم طلباً للحصول على جواز سفر مستعجل".
أمّا كريم الذي فضّل التعريف عن نفسه بهذا الاسم المستعار، فيشير إلى أنّه تمكّن "بالواسطة" من الحصول على جواز سفر جديد. ويوضح لـ"العربي الجديد": "التزمتُ بداية بالتقديم عبر المنصّة، لكنّني حصلتُ على موعد متأخّر، ولم يكن في وسعي الانتظار. حينها لجأتُ إلى أحد معارفي وحصلتُ على الجواز قبل أن ترتفع كلفته".
"قوارب الموت" متنفّسنا الوحيد
ويعبّر جاد المصري عن خوفه من عدم القدرة على تجديد جواز سفره، لا سيّما أنّه موعود بوظيفة محتملة في الخارج. ويقول لـ"العربي الجديد": "حتّى الهرب من هذا البلد بات صعباً وممنوعاً. وصلنا بالفعل إلى حائط مسدود ووضع مأساويّ". ويسأل المصري: "كيف لنا أن نلوم المواطنين الذين يهاجرون على متن قوارب الموت، معرّضين حياتهم وحياة أولادهم للخطر؟ نحن نعيش الذلّ والقهر واللإنسانية حتّى عند عزمنا على مغادرة البلاد، إلى جانب معاناتنا اليومية مع الغلاء والوضع الأمني المتفلّت والحرمان من أبسط مقوّمات العيش".
في سياق متصل، تخبر سارة بغدادي أنّها أتت إلى لبنان مع ابنتَيها لتجديد جوازات سفرهن، كي يتمكّن لاحقاً من تجديد إقاماتهن في الكويت، غير أنّها لم تتمكّن من أخذ موعد، إذ أعلن الأمن العام وقف العمل بالمنصّة، وبالتالي هي اليوم في حالة ترقّب. وتشير بغدادي لـ"العربي الجديد" إلى أنّها لم تقدّم الطلبات عبر السفارة اللبنانية في الكويت "لأنّها تستغرق نحو أربعة أشهر، فكانت النتيجة هنا أسوأ".
وكانت المديرية العامة للأمن العام قد أوضحت في بيانها المذكور آنفاً أنّ "كلّ من لديه موعد على المنصّة، سيتمّ منحه جواز سفر، وفقاً للموعد المعطى له سابقاً"، مشيرة إلى أنّ "دوائر المديرية ومراكزها الإقليمية شهدت اعتباراً من عام 2020، ضغطاً كبيراً على طلبات الجوازات، فاقت عشرات أضعاف الأعوام السابقة، ما أثّر على المخزون لديها".