لا مبالغة في القول إن الجامعة اللبنانية الحكومية التي حضنت عشرات ألوف الطلاب على مرّ السنوات، باتت تلفظ أنفاسها الأخيرة، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، الأمر الذي يهدد مصير أساتذة وإداريين وطلاب.
تعاني الجامعة اللبنانية من ظروف غاية في الصعوبة، إلى حد الوصف بأن الجامعة تلفظ آخر نسمة حياة في جسدها، وسط حال لم تعرف شبيهاً له منذ تأسيسها قبل 71 عاماً من مجرد دار للمعلمين العليا إلى أكبر جامعة في لبنان، تبعاً لتلك العقود المتلاحقة من النضالات الشعبية المطلبية ولدى الأساتذة والطلاب، وباتت تملك 17 كلية و4 معاهد دكتوراه وأكثر من 154 اختصاصاً في شتى فروع العلوم الإنسانية والعلمية، كما تملك أكبر عدد من طلاب التعليم العالي في لبنان بالقياس إلى عشرات الجامعات الخاصة التي نمت كالفطر على حسابها ومن جرّاء الأزمات التي أصابتها وعانت منها دون نجاح في لجمها أو الحد من آثارها.
لنبدأ من الصورة الراهنة ونحن على مشارف شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2022، حيث يُفترض الاستعداد على قدم وساق لانطلاقة العام الدراسي 2022 ــ 2023 . حتى تاريخه، لم تنجز الجامعة اللبنانية امتحانات الفصل الثاني من العام الجامعي السابق. وبطبيعة الحال، لم تتم الدورة الثانية للطلاب الذين حملوا مواد من الفصل الأول، أو لم تمكنهم ظروفهم من دخول امتحان الفصل الأول لألف سبب وسبب.
أكثر من ذلك، فمعظم كليات الجامعة تجري امتحانات دخول للمتقدمين للدراسة في صفوفها. وهو امتحان يحسب له الطلاب والأهالي الحساب، بالنظر للأعداد الكبرى التي تتقدم إليه من طلاب التعليم الرسمي والخاص.
والمعروف أن كليات الجامعات الخاصة كانت لا تفتح أبوابها للتسجيل إلا بعد إنجاز الجامعة اللبنانية امتحانات القبول، أي أن الراسبين في امتحانات الدخول إلى اللبنانية يتوجهون للتعليم العالي الخاص. ومن المعروف أن الجامعة اللبنانية هي الوحيدة الرسمية في لبنان، ورسوم التسجيل فيها محدودة ورمزية، بالمقارنة مع ما تتقاضاه الجامعات الخاصة من أقساط باتت تحسب الآن على أساس الوحدات الدراسية خلال كل فصل من الفصول، مع فارق شاسع بين بدلات المادة في العلوم الإنسانية والعلمية.
كي نحيط بالصورة أكثر، نشير إلى أن طلاب الجامعة وأساتذتها لا يعرفون بالضبط ما إذا كان هناك عام دراسي ينتظرهم أم سيبقون على قارعة طريق الأزمة الاقتصادية – النقدية التي تعصف بالدولة اللبنانية، وتكاد تطيح بمعظم المؤسسات العامة وفي مقدمتها الجامعة اللبنانية أساتذة وطلاباً، والجيش وقوى الأمن التي فرّ من الخدمة في صفوفها المئات من الجنود والضباط، في وقت زادت فيه الأعباء الأمنية مع وجود مليون ونصف مليون لاجئ سوري إن لم نقل أكثر.
وتتضاعف الأزمة على أهالي طلاب التعليم العالي متى أدركنا أن معظم الجامعات الخاصة "دولرت" أقساطها وسط انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، ما يعني أن النسبة الأكبر من هؤلاء لن تتيح ظروف ذويهم دفع مئات الملايين، بينما هم يناضلون لتأمين خبزهم اليومي وطبابتهم واستشفائهم، وسط انهيار المؤسسات الضامنة وإصرار المستشفيات على قبض الأتعاب والأكلاف بالدولار "الفريش".
لنعد إلى الجامعة اللبنانية التي تعاني من نقص تمويل من الدولة لم تعرف له مثيلاً من قبل. ففيما كانت تلك الموازنة تقدر سنوياً بـ265 مليون دولار بالقياس إلى سعر صرف الليرة اللبنانية، هبطت مثلاً العام الماضي على نحو غير مسبوق، ولم تتجاوز الـ13 مليون دولار.
وفيما كان من المؤمل أن تعوض الخدمات التي قدمها طلابها بعض هذا النقص من خلال المنصات الصحية التي أقيمت في مطار بيروت لإجراء فحص كوفيد-19 (PCR) لم يصلها من المبلغ الذي يدفعه القادمون سوى جزء بسيط لا يتجاوز "أذن الجمل" وعلى سعر منصة صيرفة، وكانت في حينه 8 آلاف ليرة لبنانية للدولار الواحد (وصل الدولار اليوم إلى نحو 36 ألف ليرة).
أما المبلغ الباقي وهو بآلاف المليارات فلم يصل للجامعة منه شيء. أكثر من ذلك طلاب كليات الطب والصحة العامة، وخلال انتشار وباء كورونا، نهضوا إلى تحمل مسؤولياتهم تجاه أبناء وطنهم، وأمنوا دواماً كاملاً في المستشفيات الحكومية وبعض الخاصة، وهي الخدمات التي موّلتها مساعدات منظمة الصحة العالمية وصندوق النقد الدولي. وهذه بدورها لم تصل للجامعة لقاء أتعاب الطلاب والأساتذة والمخاطر التي تعرضوا لها.
الآن لا تملك الجامعة أي مقومات تخولها الشروع في العام الدراسي لا على الصعيد البشري ولا على الصعيد المادي. فالموازنة الراهنة لا تقدم لها أي نسمة أمل في تقطيع العام الدراسي بالتي هي أحسن. فلا إمكانية لتوفير المحروقات لتشغيل المولدات من أجل الإضاءة وتأمين الطاقة للإنترنت، ولا قدرة على شراء القرطاسية للامتحانات وتسيير أمورها الإدارية، أو باقي التجهيزات ومواد المختبرات، أما أجور الأساتذة والكادر الإداري فقصة أكثر دلالة.
أجور أساتذة الجامعة اللبنانية باتت بلا قيمة بعد تدني سعر الليرة
لا بد من الإشارة إلى أن نظام التوظيف التعليمي في الجامعة اللبنانية يعتمد نظاماً مثلثاً؛ فهناك قسم من الأساتذة في ملاك الجامعة، وقسم ثان متفرغ في الجامعة، وهؤلاء يعادل عددهم حوالي 2000 أستاذ، وقسم ثالث يعمل بالتعاقد ويصل عدد أفراده إلى حوالي 3300 أستاذ، والأخيرون يتقاضون أجورهم عن كل ساعة عمل فقط، ودون حد أدنى من الضمانات الاجتماعية والصحية والاجتماعية خلاف القسمين السابقين. أما المتعاقدون الذين يملكون نصاباً تعليمياً (250 ساعة سنوياً)، فيمكنهم من الحصول على التفرغ في الجامعة في حال طبق القانون الذي ينص على حق الأستاذ بالتفرغ بعد عامين من ممارسته التعليم، ونسبتهم حوالي 55 في المائة من عدد المتعاقدين. أما الباقون وهم حوالي 1500 أستاذ، فهؤلاء متعاقدون على عدد من الساعات يراوح ما بين 5 و40 ساعة شهرياً. وكان أساتذة الملاك والتفرغ يتقاضون أجوراً شهرية كما كل موظفي الدولة اللبنانية، وكانت تعادل قبل الأزمة حوالي ثلاثة آلاف دولار أميركي للأستاذ. أما الآن، ومع انهيار الأجور، فلم تعد تساوي أكثر من 150 دولاراً شهرياً، وهو مبلغ لا يكفي لتأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة الشخصية، فكيف إذاً بالعائلية؟
كما أن صندوق تعاضد أساتذة الجامعة اللبنانية الذي كان يقدم خدمات صحية بنسبة 85 في المائة من فاتورة الأدوية والمختبرات وأجور الأطباء و90 في المائة من كلفة الاستشفاء في الدرجة الأولى، لم يعد ما يقدمه من تغطية صحية واستشفائية يزيد عن 15 إلى 20 في المائة من الكلفة المدفوعة من جانب الأساتذة وكافليهم. ولا تزال تسعيرة ما يدفعه هي هي، بينما زادت تعاونية الموظفين العاملين والمتقاعدين في القطاع العام بمن فيهم أساتذة المراحل الابتدائية والثانوية النسبة إلى 400 في المائة، وهي زيادة عاجزة عن مجاراة الارتفاع الجنوني في تسعيرة الأدوية والخدمات الطبية والاستشفائية في المستشفيات الحكومية والخاصة.
هذا الوضع المزري للأستاذ دفع بأعداد كبيرة من الفئات الثلاث التي تحدثنا عنها إلى مغادرة البلاد متجهين نحو أوروبا ودول الخليج العربي والعراق وغيرها. والملفت أن أعداداً ممن لم يعثروا على مراكز في مؤسسات التعليم العالي عملوا كأساتذة في ملاك التعليم العام بما فيه الابتدائي، أو أي عمل يؤمن لهم دخلاً مقبولاً.
والجامعة اللبنانية وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، لم تمارس التعليم الحضوري المنظم بسبب كورونا وعدم توفر الكهرباء في الكليات، وأعطى الأساتذة محاضراتهم عن بعد (أونلاين). لذلك، يصعب الآن على إدارة الجامعة اللبنانية معرفة حجم النزيف الذي تعانيه. وبالطبع، في حال عادت الجامعة للتعليم الحضوري، يتبين مدى الأضرار التي لحقت بها على صعيد الأساتذة المؤهلين، علماً أن هناك عمليات تعاقد تمت بفعل ضغوطات سياسية وطائفية وغيرها.
لا يستطيع أحد أن يجزم بمصير العام الدراسي المقبل ولا بمصير الجامعة اللبنانية. ولكن هذه الجامعة التي تنشر كلياتها ومعاهدها على مختلف المناطق اللبنانية تشبه الإمبراطوريات القديمة التي تحتاج إلى عشرات بل ومئات السنين كي تموت. هذا النزع الطويل تعاني منه الجامعة اللبنانية دون أي بارقة أمل بالإنقاذ، إذ يتطلب الإنقاذ موازنة سنوية حدها الأدنى تبعاً لتقدير رئيس الجامعة بسام بدران ورئيس رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية عامر حلواني 30 مليون دولار أميركي لتأمين انطلاقة عام دراسي فعلي. لكن هذا الطلب قوبل بإشاحة النظر عنه لدى المسؤولين. وقد طرق كل من وزير التربية والتعليم العالي عباس الحلبي ورئيس الجامعة أبواب عدد من السفارات والجهات الدولية المانحة (بريطانيا، قطر وصندوق النقد الدولي وآخرين) من أجل توفير المبلغ كمنحة أو هبة، ولكن حتى اللحظة لم يتحقق أي انجاز فعلي ملموس.
تنبغي الإشارة هنا إلى أن أوضاع المدربين والكادر الإداري أكثر مأساوية من الأساتذة بأقسامهم الثلاثة، إذ انخفض راتب أحدهم إلى 86 دولاراً. ومع أن هؤلاء هم العمود الفقري لتسيير عمل إدارة الكليات والمعاهد، إلا أنهم مجردون من الحصول على الرواتب الشهرية، ومعظمهم مياومون أو مؤقتون، أي أنهم لا يتقاضون أي مبلغ على هامش العمل اليومي الذي يقومون به، والأسوأ أن مستحقاتهم قد تتأخر عاماً أو أكثر لدفعها، وهو ما ينطبق على أساتذة التعاقد أيضاً.
لا أحد يعرف مصير طلاب الجامعة اللبنانية في حال إقرار تصفيتها
تحتضن الجامعة اللبنانية حوالي 85 ألف طالب وطالبة في جميع التخصصات ومن مختلف المناطق اللبنانية، بعدما كان عددهم 120 ألف طالب وطالبة. وللجامعة كما هو معروف خمسة فروع تتوزع على المحافظات، ويقصدها الطلاب تبعاً لقربهم وبعدهم عن مراكز الكليات. إلا أن هناك تخصصات لا تتوافر في كل الفروع ما يدفع الطلاب إلى قصد فرع بعيد عن مقار سكنهم ودفع كلفة بدل نقل يومي أو استئجار منزل.
في مجمع رفيق الحريري في منطقة الحدث (قضاء بعبدا في محافظة جبل لبنان) كان هناك سكن لبعض الطلاب والطالبات ممن تتوافر فيهم بعض الشروط. ومن باب الذكر، نشير إلى أن الجامعة اللبنانية عندما كانت موازنتها عامرة كانت تقدم مساعدات اجتماعية لعدد من الطلاب تبعاً لأوضاعهم وأصولهم والفئة التي ينتمي إليها ذووهم بالإضافة إلى منح دراسية في الخارج للمتفوقين. كما أن ذوي الطلاب بدورهم كانوا سابقاً قادرين على استئجار غرف سكن لأبنائهم وبناتهم قرب الحرم الجامعي، الذي يقصدونه سيراً على الأقدام.
أما الآن فأجرة السرفيس (سيارة الأجرة) للوصول إلى الجامعة، ومن مكان قريب هو جيئة وذهاباً مائة ألف ليرة لبنانية يومياً. وفي حال اعتماد وسيلتين للوصول يتطلب الأمر ضعف المبلغ. أما الانتقال اليومي من منازل الأهل البعيدة فباتت أكلافه فوق الطاقة بالتأكيد.
خلال الأعوام الثلاثة الماضية جرى الاتكال على التعليم عن بُعد مع معضلات الطاقة والإنترنت وغيرها من المعوقات. الآن تزداد الأمور سوءاً على سوء، إذ تصعب العودة إليه كما يستحيل اعتماد الحضور المباشر. وكل ما في الأمر أن بعض الكليات تفتح أبوابها لامتحانات طلاب التخرج، أو للحاصلين على منح لإكمال دراساتهم العليا في الخارج، من المتفوقين في مجالات العلوم الأكاديمية المتعددة.
بالإضافة إلى ما سبق، تعاني الجامعة اللبنانية بمختلف فروعها وكليّاتها ومعاهدها من إضرابات متكررة سنوياً تقود إلى توقف التعليم والعمل الإداري بما في ذلك الامتحانات النهائية حتى إشعارٍ آخر. فالعام الحالي 2022 شهدت الجامعة اضرابات للمرة الثالثة بدعوة من الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرّغين في الجامعة اللبنانية والهيئة التنفيذية لرابطة العاملين فيها، تحت شعار "حفظ الجامعة الوطنية وكرامة الأساتذة". وتحت وسم #أنقذوا_الجامعة_اللبنانية، أعرب الناشطون والطلاب والأساتذة عن رفضهم لما آلت إليه أوضاع الجامعة الوطنية، وسط غياب أيّ حلول جديّة لإنصافهم وتأمين حقوقهم المعيشيّة، ولوقف انهيار الجامعة اللبنانية وحرمان الغالبيّة العظمى من الطلاب من حقّهم بالتعليم.
كما أن تكرار الإضرابات السنوية هو الذي قاد إلى تراجع عدد طلابها بمعدلات سنوية متصاعدة، باعتبار أن الثقة بعودتها للانتظام الأكاديمي أمر مشكوك فيه، في ظل سلطة بددت إمكانيات الدولة ونهبت مقدرات المواطنين، وأفقرت الأساتذة والعاملين، ما يجعل السؤال مشروعاً حول إمكانية إنقاذ الجامعة كصرح تعليمي أكاديمي وطني خرَّج من مقاعده عشرات ألوف المجازين في شتى صنوف الاختصاص العالي، في ظل سلطة اتهمها البنك الدولي بأنها مارست سياسة تخريب "بونزية" متعمدة للاقتصاد والمجتمع اللبناني.