في الأيام التي تلت إعلان وقف إطلاق النار وانتهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، راحت تنتشر صور تعكس الازدحام عند شاطئ بحر غزة، من دون الاكتراث لشروط التباعد الاجتماعي. ويرى الغزيون أن العدوان الذي استمر 11 يوماً كان أقسى بكثير من تفشي فيروس كورونا الجديد.
هذا ما عبّر عنه الكثير من الغزيين بعد انتهاء عدوان الاحتلال الإسرائيلي، على الرغم من استمرار وزارة الصحة الفلسطينية في تسجيل إصابات يومية بفيروس كورونا، بعد عودة العمل في المختبر المركزي الذي تضرر من جراء القصف الإسرائيلي، وعاود إجراء فحوصات كورونا مجدداً. ويقول سليمان بهار (52 عاماً)، الذي كان يجلس مع أسرته عند شاطئ بحر منطقة الشيخ عجلين: "نجونا من القصف الإسرائيلي والموت، لذلك لا نكترث لكورونا. فالخوف وما حل بنفسيتنا أصعب من فيروس كورونا". خلال وجوده على الشاطئ، يكتفي بتأمل البحر وتدخين النرجيلة.
ولا يقلّل بهار من خطورة فيروس كورونا، لكنّه يعتبر أن ما عاشه خلال العدوان الأخير كان الأصعب في حياته، على الرغم من أنه عاش ظروف الانتفاضة الأولى عام 1987، وفرض الاحتلال حظر التجول، وغيرها، "إلا أن العدوان الأخير كان مختلفاً، وأهدافه غير واضحة. حتى أن عائلات بأكملها استهدفت. وطاول القصف مناطق لم يتوقع أحد استهدافها من قبل". ويقول بهار لـ"العربي الجديد": "أقيم في حي الزيتون. أمضينا ليالي العدوان تحت خط النار، وكانت أصوات القصف أكثر رعباً بالمقارنة مع الحروب السابقة، ولم نكن نعلم إن كنا مستهدفين، إذ قصفت مناطق لم نتوقع قصفها. كان شعور الموت قريباً منا ومن أطفالنا. بعد العدوان، توجهنا إلى البحر في محاولة للابتعاد عن كل ما عشناه من مشاهد قاسية ورعب".
أما سعيد مهنا (41 عاماً)، فيتوجه أيضاً إلى الشاطئ مع أفراد أسرته الستة أكثر من مرة أسبوعياً بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي، فهو يسكن في حي الرمال في شارع الوحدة الذي شهد مجزرة إسرائيلية أبادت أربع عائلات. وما شاهده خلال العدوان الإسرائيلي كان الأصعب في حياته، إذ كان على بعد عمارتين من عمارة أبو العوف التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي بالكامل. يقول لـ"العربي الجديد: "البحر في غزة للجميع؛ الفقير والغني. وعلى الرغم من إقامة مشاريع عدة، إلا أن الغزيين يكتفون بتأمل البحر".
ويوضح مهنا أنه "كنا نحتاج للابتعاد عن كل ما رأيناه وعشناه من قصف وحشي خلال الفترة الماضية. قضينا ليالينا على مقربة من مرحاض البيت لنبتعد عن النوافذ والأبواب. في كل مرة أجلس على الشاطئ نحو 5 ساعات، محاولاً تناسي ولو شيء بسيط مما عايشناه خلال العدوان الأخير".
وتتجمع عائلات عند الشاطئ، وتحديداً في منطقتي الواحة والسودانية، شمال القطاع. نسبة كبيرة منها نزحت خلال العدوان الأخير إلى وسط مدينة غزة، وأمضت أيامها داخل مدارس وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وقد دمّر الاحتلال الإسرائيلي عدداً من منازلها.
نجا معين المصري من موت محقق خلال قصف إسرائيلي للحي الذي يقيم فيه داخل بلدة بيت حانون. كان آخر من أخلى منزله خلال قصف الحي ثم قصف منزل جيرانه في اللحظة التي أغلق فيها باب منزله. في تلك اللحظة، استدار وجلس أرضاً، إلا أنه استطاع الفرار، ثم تابع الجيش الإسرائيلي قصف المنزل بالكامل. يجلس المصري قرب الشاطئ مع جميع أفراد أسرته. كان قد تناول وجبتي الفطور والغداء على البحر، ويريد استكمال يومه في المكان نفسه لتناول العشاء ثم العودة إلى المنزل الذي تضرر جزئياً. يقول لـ"العربي الجديد": "الموت كان في كل أحياء غزة. من ينجو من الموت يفكر في التوجه إلى كل الأماكن الجميلة عله ينسى ما حصل. أنا وأبنائي لا يوجد أمامنا سوى البحر".
إلى ذلك، عاد الباعة المتجولون إلى الشاطئ، وانتشر بائعو البالونات والألعاب والمشروبات الباردة والمثلجات وحتى البطاطس الحلوة الحمراء التي تباع عند الشاطئ فقط. جميع هؤلاء بدوا سعداء بعودة الحياة إلى الشاطئ بعد انتهاء العدوان، على الرغم من كل ما عايشوه، ومنهم من هدمت منازلهم شمال قطاع غزة، مثل أحمد العطار (24 عاماً)، الذي يبيع غزل البنات. فمنزل العطار تضرّر ودُمّر نصفه المنزل في حي العطاطرة، شمال القطاع، والكثير من أفراد أسرته أصيبوا خلال العدوان. أما هو فلن يتمكن من التخلص من المشاهد الصعبة خلال فراره من الصواريخ، وقد تعجب كثيرون لدى رؤيته يعمل في منطقة السودانية على شاطئ البحر شمال القطاع، لكن البحر يريحه وينسيه همومه.
يقول العطار لـ"العربي الجديد": "نشاهد ميناء أسدود شمال قطاع غزة والمداخن العملاقة. لكن لا نبالي أمام تلك المشاهد. نريد البحر فقط، حتى لو بقي لنا ميل واحد للسباحة. السمكة توافق على العيش في حوض صغير جداً، ونحن في غزة نريد أن نعيش في الحوض الجميل لأننا نواجه الموت كل يوم. وخلال العدوان الأخير، شعرت أن الموت كان يلاحقني".