- تقارير تفيد بمقتل حوالي 400 مدني واعتقال 300 آخرين بالقرب من مجمع الشفاء، مع شهادات عن التعذيب والإعدامات الميدانية، مما يسلط الضوء على الوحشية ضد المدنيين ويزيد من قائمة المفقودين التي تجاوزت الـ8 آلاف.
- الحكايات الشخصية للناجين وأهالي الضحايا تضفي بعداً إنسانياً على المأساة، مع استمرار الجهود اليائسة للبحث عن المفقودين وسط الأنقاض، وتعمل طواقم الدفاع المدني على استخراج الجثامين والبحث عن دلائل لمصير المفقودين.
سارع العديد من الغزيين إلى مجمع الشفاء ومحيطه عقب انسحاب قوات الاحتلال في محاولة لمعرفة مصير من كانوا في المنطقة، فمنهم من عُثر على جثامينهم، وآخرون ما زالوا في عداد المفقودين.
بعد مرور أربعة أيام على انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من مجمع الشفاء الطبي، لا يزال أهالي مدينة غزة يبحثون وسط الدمار الكبير الذي أحدثه اقتحام المجمع والمنازل المحيطة به علَّهم يعثرون على جثامين ذويهم من المفقودين، في حين ينبش أخرون الأنقاض والركام في محاولات يائسة للبحث.
ويعرف الغزيون بوجود جثامين من خلال تغير لون الرمال نتيجة اختلاطها بالدماء والأشلاء التي خلفتها الإعدامات الميدانية التي قام بها الاحتلال، وعثر بعضهم على أطراف مقطوعة وأشلاء متناثرة تكشف عن حجم وبشاعة المجزرة، لكن لايزال هناك أعداد كبيرة من المفقودين الذين لم يعثر على جثامينهم أو بقاياهم، ولا تتوفر أية أخبار عنهم.
ووفق الشهادات والبلاغات التي تلقاها المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل نحو 400 مدني في داخل مجمع الشفاء الطبي وفي محيطه بمدينة غزة، كما تم الإبلاغ عن اعتقال 300 آخرين بناءً على شهادات أفراد من الطواقم الطبية، والذين أكدوا تعرضهم للتعذيب أيضاً.
وتشير بيانات المكتب الإعلامي الحكومي إلى أن أكثر من 100 شخص آخرين لا تتوفر أية معلومات عنهم، وتم وضعهم ضمن أعداد المفقودين، لينضموا إلى أكثر من 8 آلاف مفقود تم تسجيلهم منذ بداية العدوان، والغالبية العظمى منهم استشهدوا، وتتواجد جثامينهم تحت الأنقاض، وأن آخرين اعتقلوا على الحواجز الإسرائيلية، أو من مناطق سكنهم أو نزوحهم التي جرى اقتحامها، ولا يعرف مصيرهم.
وكان من بين المحاصرين في المجمع ومحيطه مدنيون أجبروا على البقاء لنحو أسبوعين من دون طعام أو مياه، وسجلت بينهم العديد من الوفيات، لكن ذويهم كانوا عاجزين عن دفنهم بسبب تواجد قوات الاحتلال التي كانت تستهدف أي جسم متحرك.
قتل جيش الاحتلال نحو 400 شخص في مجمع الشفاء الطبي ومحيطه
كان الشاب أحمد أبو صفية يرافق والده المريض في الجزء الخلفي من مبنى المجمع الرئيسي، وكان والده في مرحلة الإفاقة من عمليات جراحية في الأمعاء والرقبة كان قد أخضع لها قبل أربعة أيام من اقتحام الاحتلال للمستشفى، وقد ساءت حالته خلال فترة الاقتحام، وبات يحتاج إلى عناية مكثفة وأدوية. يقول لـ"العربي الجديد": "مرت أيام كنا نتبادل فيها الشرب من زجاجة واحدة، وكان كل منا يشرب جرعة واحدة، أو أقل كمية ممكنة حتى لا ينفد الماء. كثيرون خرجوا من المبنى من أجل الحصول على طعام، لكنهم أعدموا بشكل مباشر، والبعض جرى اعتقالهم، ومنذ انسحاب الاحتلال يواصل عدد من الأهالي البحث عن الجثامين، وقد وجدنا جثمان شاب كان معنا، ولايزال آخر مفقودا، وربما تم اعتقاله، وهناك شاب أعدم لكن لم نعثر على جثمانه حتى اللحظة".
يضيف أبو صفية: "وجدنا حفراً طينية في وسط ساحة المجمع، وعثرنا فيها على عدد من الجثامين، لكن لم يتعرف إليها أحد لأن هذه المنطقة سارت فوقها الدبابات كثيراً ما شوه معالم الجثث. كان في مكان هذه الحفر خيام كثيرة للنازحين، والعديد منهم تعرضوا للاعتقال، وجرى إجبارهم على خلع الملابس، وبعضهم تم إعدامهم، وتعرفت إلى جثمان أحد النازحين، واسمه أبو العبد، وعرفته لأنه كان رجلاً ملتحياً، ولاحقاً تعرفت إليه أسرته من صورة التقطتها لوجهه".
نجا أيمن صيام مع زوجته وأبنائه الثلاثة، لكنه لم يجد والده البالغ 59 سنة بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من المجمع الطبي، وهو يبحث عنه حتى الآن، لكنه لم يعثر عليه، ويتمنى أن يكون والده معتقلاً وليس شهيداً في ظل غياب جهات التنسيق مع جيش الاحتلال منذ بداية العدوان حول ما يتعلق بمعتقلي غزة.
ظل صيام يلاحق أي صوت يتحدث عن وجود أشلاء أو جثمان شهيد للبحث عن والده، لكن من دون جدوى، وكانت صدمته كبيرة عندما أخرج جثامين عدد من أقاربه من تحت الأنقاض، ويؤكد أنهم جميعاً مدنيون، وكان أحدهم ابن عمه العشريني أحمد صيام، وهو من ذوي الإعاقة، وقد أعدم ميدانيا، وداسته جرافة عسكرية. يقول لـ"العربي الجديد": "يبحث كثير من الناس عن ذويهم، وقمنا بتوزيع الأسماء على بعضنا، ونخبر بعضنا عن ملامح المفقودين، وهناك تعاون كبير لأن الجميع يعيشون ذات المأساة، وتمكنا من العثور على بعض الجثامين، كما عثرنا على أشلاء من جثامين تم التعرف إلى أصحابها بناءً على آخر ملابس شوهد الشخص يرتديها، والبعض شاهدوا اعتقال أشخاص، وأبلغوا عائلاتهم بذلك حتى لا يبحثوا عن جثامينهم".
يتابع: "تعيش العائلات في حالة من القلق بسبب عدم معرفة مصير ذويهم المفقودين، وربما يكونون معتقلين. الواقع البائس جعلنا عندما نتأكد أن الأشلاء التي وجدناها ليست لأقاربنا نقول في سرّنا الحمد لله، وأتمنى أن يكون والدي معتقلاً، فمنذ توفيت والدتي قبل ثلاث سنوات، أصبحت الراعي الأساسي لوالدي، وأدعو الله أن يكون بخير".
وفقدت عائلة أبو عليوة اثنين من أفرادها قبل عشرة أيام، وبعد يومين من انسحاب الاحتلال، عثروا على جثمان الأب محمود أبو عليوة (57 سنة)، بينما لا يزال ابنه عائد (23 سنة) مفقوداً، وتعتقد العائلة أنه من بين المعتقلين لأنه كان في الجزء السفلي من المبنى حين اقتحم الاحتلال المجمع الطبي، واعتقل العديد من الأشخاص من هناك.
يقول عصام أبو عليوة لـ"العربي الجديد": "مصيرنا جميعاً مجهول، ولا نعرف إن كان المفقودون من ذوينا وأصدقائنا وجيراننا أحياء أم أمواتا، وأصبحنا نبحث عن أية شهادات كنوع من التمسك بالأمل. عثرنا على جثمان شقيقي محمود، وكان مقطعاً بصورة بشعة، وقمنا بدفنه في مقبرة المستشفى المعمداني. كان أخي أحد المتمسكين بالبقاء في غزة، وكان يرفض التهجير، وقبل اقتحام المجمع كان يكرر أنه يريد أن يموت شهيداً، وقد نال الشهادة، ونتمنى أن يكون ابنه عائد معتقلاً، ولم يصبه مكروه، فهو طالب جامعي، ولا ينتمي لأي فصيل سياسي، ولا يزال شاباً، ولديه أحلام يرغب بتحقيقها".
ويبحث عدد من العائلات عن ذويها في محيط المجمع أيضاً، وقد عثر على جثامين بالقرب من المنازل المحيطة التي تعرضت للتدمير الكامل، كما عثر على جثامين في الشوارع، ويعتقد أن هؤلاء جرى قنصهم خلال محاولتهم الفرار، لكن أحد أصعب المشاهد كان لسيدة من عائلة قريقع، وهي ستينية كانت مصابة بالقلب والسكري، وقد أعدمها الاحتلال عندما كانت تحاول الخروج من القسم الخلفي لمبنى الولادة، وتم التعرف إليها حين حضر ابنها، وأكد أن هذا جثمان أمه.
ودمر الاحتلال الإسرائيلي عشرات المنازل في محيط مجمع الشفاء بالكامل، ولا يعرف مصير كثير من سكان هذه المنازل، وقد أعلن جهاز الدفاع المدني افتقاده نحو 70 في المائة من قدرته على العمل، واعتماد جهود البحث والإنقاذ ورفع الأنقاض على أدوات بسيطة، أو البحث اليدوي في معظم الأحيان.
ويقول محمد حمّاد، وهو أحد طواقم الدفاع المدني الذين يعملون على مدار الأيام الأخيرة في البحث عن الجثامين تحت الأنقاض، إن "الاحتلال نسف عبر طائراته ومدفعيته مربعات سكنية بالكامل كانت تضم العديد من المباني المحاذية لمجمع الشفاء، وكان الهدف من تدمير بعضها هو إفساح الطريق للدبابات والآليات، كما دمر الاحتلال كذلك مركبات ومعدات الدفاع المدني من أجل إفقاد الجهاز القدرة على العودة إلى العمل سريعاً".
ويوضح حمّاد لـ"العربي الجديد"، أن "قدرات طواقم الدفاع المدني الحالية غير كافية لإزالة الأنقاض واستكمال البحث عن المفقودين، فمن بين كل المرات التي ارتكب فيها الاحتلال مجازر كبرى، كان واضحاً أن عمليته الأخيرة في مجمع الشفاء تستهدف إبادة المنطقة بالكامل، وأن تبقى جثامين الشهداء الغزيين تحت الأنقاض لأطول وقت، وأن تصبح إعادة إعمار المنطقة صعبة".
ويضيف: "أخرجنا العديد من الجثامين من تحت ركام المنازل المجاورة للمجمع، والناس يكتبون لنا عن ملامح ذويهم من المفقودين، علنا نعثر عليهم، أو على ما يدلل على وجودهم، وطالعت كثير من المشاهد الصعبة لجثامين سيدات ومسنين وأطفال، وفي كثير من المرات نصادف أشلاء، خصوصاً أننا نعتمد في كثير من الأوقات على الجهد اليدوي، وهو أمر متعب، لكننا نصر على استكمال العمل".