تواجه المنظمات الحقوقية الدولية وحتى الأمم المتحدة، صعوبات كبيرة في استثناء منطقة جغرافية من ظاهرة الاتّجار بالبشر، التي يصادف اليوم العالمي لمكافحتها، اليوم الجمعة. معظم الدول أكانت بلدان منشأ أم عبور الظاهرة، أم وجهة نهائية للضحايا، على علاقة بها.
وكانت القضية وصلت عام 2010، بعد عقود طويلة من استفحالها واتساع نطاقها، إلى أروقة الأمم المتحدة التي تبنت "خطة عمل عالمية لمكافحة الاتّجار بالبشر"، رغم أنها حاولت منذ عام 1979 لجم هذا النوع من "الرق الحديث"، لكن دولاً أوروبية تأخرت عن التوقيع على بروتوكول باليرمو الذي وضعته المنظمة الدولية عام 2000، وعرّف ظاهرة الاتّجار بالبشر وجرّمها وطالب بمعاقبة مرتكبيها، علماً أن المحكمة الأوروبية ومجلس النواب الأوروبي كانا صادقا على البروتوكول عام 2005.
يعرّف بروتوكول باليرمو الاتّجار بالبشر بأنه "أي شكل من أشكال تجنيد شخص أو نقله وإخفائه أو استقباله باستخدام القوة والإكراه، من خلال الخطف والاحتيال أو الاستغلال الجنسي أو العمل الإجباري والعبودية، ونزع الأعضاء البشرية".
ويحدد البروتوكول كل ممارسات الاتّجار بالبشر، وبينها على أطفال دون سن الـ18. ويتناول ظاهرة إجبار فتيات ونساء على مزاولة الدعارة لتحقيق ربح مالي بتغطية من عصابات الجريمة المنظمة العابرة للقارات. ويعتبر أن "موافقة الضحية على الاستغلال لا تؤخذ في الحسبان". كما يجبر الدول الموقعة، على الأقل نظرياً، على تطوير وسائلها القانونية لمكافحة الظاهرة وحماية الضحايا، خصوصاً أولئك الأكثر عرضةً لها، وهم الأطفال والنساء.
وتقدر المنظمات الدولية ومؤشر العبودية العالمي أن حوالى 40 مليون شخص يعيشون في ظل ظروف عبودية، في حين تحدثت تقارير أخرى عن 27 مليون ضحية قبل نحو 10 سنوات، ما يعني أن الظاهرة توسّعت.
حتى في الدول المتقدمة
إثر مقتل الأميركي الأسود جورج فلويد على يد شرطي عام 2020، صبّ مناصرو حركة "حياة السود مهمة" جام غضبهم على تماثيل تجار الرقيق والعبيد، وأي شخص اعتقدوا بأنه شارك عبر التاريخ في العبودية التقليدية التي عرفها البشر خلال القرون الماضية. وشمل الغضب تمثال تاجر الرقيق إدوارد كولستون في مدينة بريستول البريطانية، الملك ليوبود في بلجيكا، وتماثيل أخرى عبر العالم. لكن الغضب لا ينحصر في رموز أحداث تاريخية سابقة لأن "العبودية الحديثة" مستمرة حتى في الدول المتقدمة. وبين عشرات الملايين من المستعبدين تضم المملكة المتحدة وحدها وفق تقديرات تعود إلى عام 2018، أكثر من 136 ألف مستعبد، أو متاجر فيهم، استناداً إلى تصنيف بروتوكول باليرمو.
وإذا كان نصيب دول المنشأ جنوب الكرة الأرضية، ما زال الأكبر في تقارير مكافحة الاتّجار بالبشر، فقد بات اتساع الظاهرة عالمياً ينافس تجارة المخدرات على صعيد حجم الأموال المقدرة بحوالى 150 مليار دولار سنوياً. يقول الباحث الاقتصادي في "مركز كار لسياسات حقوق الإنسان"، سيدارث كارا، إن "أرباح العبودية الحديثة تجاوزت كثيراً ما درته تجارة الرق عبر التاريخ".
ويفيد مؤشر العبودية العالمي الصادر عام 2018، بأن دول مجموعة العشرين الأكبر اقتصادياً في العالم استوردت منتجات تناهز قيمتها 354 مليار دولار يشك مراقبون في أنها "أُنتجت في ظل ظروف استعباد باتت لا تنحصر في دول الجنوب الفقيرة، بل تلك في الغرب أيضاً، حيث تطبق أسوأ شروط العمل وظروف الإنتاج وأدواته، تكريساً لنهج الاستعباد لتحقيق أرباح، والذي يشمل أيضاً الاستغلال البشع للمهاجرين واللاجئين في دول العبور والوجهات".
ويشير هؤلاء المراقبون إلى أن ظاهرة العبودية تنتشر في بريطانيا، على سبيل المثال، من خلال العمل القسري والاستغلال الجنسي، في حين تفيد تقارير بأن غالبية الضحايا في المملكة المتحدة تقل أعمارهم عن 18 عاماً، أي أنهم أطفال وفق تصنيف بروتوكول باليرمو.
قصص مروعة
ونشرت وسائل إعلام بريطانية قصصاً مروعة عن فيتناميين وألبان ومجريين خطفوا أو نقلوا إلى بريطانيا لدفعهم إلى العمل كعبيد في مزارع وتنفيذ أعمال أخرى. وتحدثت هذه الوسائل عن "مزارع قنب تديرها عصابات إجرامية يجبر المستعبدون على العمل بها، وهي تجارة تدر نحو 2.6 مليار جنيه إسترليني سنوياً، وأن بين المجبرين على العمل أشخاصاً من أصول بريطانية وصينيين". وكشفت أيضاً أن معظم الأجانب "لا يجري تسجيلهم في أنظمة الهجرة البريطانية، بل يهرّبون عبر موانئ فرنسية في ظروف مزرية. أما القسم الأكبر من الإناث فقاصرات يدفعن إلى سوق الدعارة في بيوت وحانات، ويشغلن أيضاً كعبدات في بيوت خاصة دون أي تواصل مع العالم الخارجي، وتحت رقابة صارمة من المتاجرين بهن. ويشارك رجال عصابات من دول المنشأ في توصيل المتاجر بهم إلى بريطانيا والدول الأوروبية".
ويقدّر تقرير رسمي أصدرته الحكومة البريطانية عام 2019 وجود 13 ألف مستعبد في البلاد، لكن باحثي "مؤشر العبودية العالمي" يصفون هذه الأرقام بأنها "غير دقيقة"، مرجحين أن "حوالى 136 ألف شخص يعيشون حياة عبودية حديثة في المملكة المتحدة".
استعباد لتسديد ديون
وفيما يزداد الاهتمام الحقوقي والإنساني في دول الشمال باتساع الظاهرة، بالتزامن مع زيادة تهريب المهاجرين إلى أوروبا والتقارير التي تكشف فظائع الاستغلال، وبينها تلك لنساء أفريقيات في ليبيا وبيع رجال كرقيق، تكشف الممارسات ما يتعرض له ملايين في دول الجنوب الأقل ثراء؛ إذ تحوّلت العبودية إلى تجارة مربحة لممارسيها.
ويورد "المؤشر العالمي للعبودية" أن "القارة السمراء تحتضن وحدها حوالى 9 ملايين شخص يعيشون في عبودية حديثة"، في حين تفيد منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة بأن "عبودية سوق العمل اليوم أكثر بثلاثة أضعاف مقارنة بـ 350 عاماً من تجارة العبيد عبر الأطلسي".
في السياق، نقلت مجلة "تايم" الأميركية عام 2019 عن منظمة العمل الدولية قولها إن "سوق العمل يضم حوالى 25 مليون مستعبد يعمل بعضهم بهذه الطريقة من أجل تسديد ديون، وهي ظاهرة تنتشر في دول آسيوية بينها الهند، وتشمل أيضا فتيات صغيرات يستعبدن لتسديد ديون الأهل، علماً أن هناك 15 مليون حالة تزويج لقاصرات أجبرن على العيش عبدات لأشخاص أكبر منهن سناً، كما يتعرض بعضهن لعمليات خطف واسعة.
النموذج النيجيري
ليس سرّاً أن مدناً أوروبية تعج بنساء استعبدن بعد نقلهن من دول أفريقية، خصوصاً نيجيريات. وليست أرقام هؤلاء النساء بسيطة، إذ تشير تقديرات إلى أنها تتجاوز عشرات الآلاف. ويورد تقرير نشرته "واشنطن بوست" عام 2019 أن "المافيا النيجيرية استطاعت بين عامي 2016 و2018 فقط تهريب 20 ألف امرأة وفتاة إلى أوروبا، باستخدام خدع مختلفة". والأدهى أن المافيا النيجيرية لديها تعاون وثيق مع المافيا الإيطالية، وبينها تلك التي تتواجد في مدينة صقلية، والتي شكلت بوابة لاستقبال مهاجرات يستقبلهن نيجيريون يعيشون في البلاد، قبل توزيعهن على مختلف المناطق الأوروبية.
ويعيد هذا النوع من العبودية الحديثة إلى الذاكرة تاريخ الرق الذي كان يحصل أيضاً من خلال وسطاء محليين يخطفون مواطنيهم من أجل بيعهم إلى تجار الرقيق البيض، قبل نقلهم عبر البحر الأطلسي.
ويلاحظ تقرير نشرته "منظمة الهجرة الدولية" عن هذه الظاهرة "زيادة نسبتها 600 في المائة خلال السنوات الماضية في تجارة الجنس الإجباري للضحايا القادمات من نيجيريا، ونسبة 80 في المائة منهن قاصرات".
"تقاليد وثقافة"
واللافت أنه فيما تركز قوانين دول الشمال، خصوصاً تلك الأوروبية على "محاصرة" تجارة الرقيق من خلال تشديد القوانين وفرض عقوبات بالسجن سنوات طويلة على مرتكبي الاتّجار بالبشر والتهريب، تشهد منطقة الساحل الأفريقي استمرار "تقاليد وثقافة العبودية" بعلم السلطات والمجتمعات المحلية، بحسب ما وثقته حالات كثيرة في أشرطة فيديو نشرتها وسائل إعلام.
في مالي وموريتانيا، لا تزال مجموعات تعمل رسمياً في الاتّجار بالبشر، رغم أن قوانين غالبية دول العالم ألغته على الورق منذ عقود. وفي 2013، سجلت مالي التي لا تمنع قوانينها العبودية حوالى 250 ألف حالة استعباد، بعضها منذ فترة الطفولة، حيث تطبق تقاليد عمل طفلة لأسرة غير قادرة على دفع ديونها كخادمة عند "سيد"، وإجبار بعضهن على الزواج في سن صغيرة.
عبر التاريخ
منذ عشرينيات القرن الماضي، اقتحم الانتباه لظاهرة العبودية الجديدة "عصبة الأمم" التي ناقشت عام 1926 معاهدة لإلغاء العبودية وتصديها لأشكال الاستعباد الفردي والممتلكات. ثم أوقفت هذه المساعي في السنوات التالية وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية، في وقت ساهمت الحرب العالمية في توسيع الظاهرة.
وفي مطلع الألفية الجديدة، حاولت السياسات العالمية حظر الظاهرة في ظل تقارير عن اتساع رقعة فظائع حالات استعباد اليد العاملة. وبين عامي 2000 و2010 انضم مزيد من الدول إلى بروتوكول حظر الاستعباد، وقدمت حزم قوانين لمعاقبة ممارسيها. لكن دوافع الربح على حساب بني البشر تواصل زيادة أرقام المستعبدين.
ولم ينحصر الاستعباد عبر العمل الإجباري في منظمات إجرامية، إذ تتهم تقارير دولية سلطات رسمية في بعض الدول بالمشاركة فيها أو التواطؤ في تغطيتها، علماً أن الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية تواجه صعوبات في تحديد الرقم الحقيقي المرتبط بـ "اقتصاد" السوق السوداء.
عام 2005، تنبهت المحكمة الأوروبية إلى أن استغلال فتيات أفريقيات صغيرات للعمل فترة 15 ساعة يومياً يحصل حتى في أراضي فرنسا، وأن النظام القضائي الفرنسي لا يقدم لهن أي حماية.
ونظرت المحكمة الأوروبية في قصة طفلة توغولية في الـ 15 من العمر احتجزت حريتها للعمل في شكل غير قانوني طوال ساعات اليوم وأيام الأسبوع، منذ أن وصلت إلى فرنسا قبل 4 سنوات.
وأثارت قضية الطفلة نقاشاً قانونياً وسياسياً على مستوى الاتحاد الأوروبي، بعد كشف تفاصيل عن "تأجير الفتاة" التي أحضرتها امرأة من بلدها للعمل الإجباري عند آخرين، قبل أن تلجأ إلى جيران أبلغوا الشرطة بما يجري. وتعرض النظام القضائي الفرنسي لانتقاد شديد لأنه لم ينصف الفتاة، قبل أن تؤكد المحكمة الأوروبية أن الطفلة وقعت فعلاً ضحية للاتّجار بالبشر.
ويتزايد عدد الدول الأوروبية التي تشدد تطبيق العقوبات الخاصة بالاتّجار بالبشر، رغم أن بعضها لا يزال متأخراً في مجال قوانين حماية الضحايا، والذي تشير إليه لوائح وزارة الخارجية الأميركية التي تدرج دولاً أوروبية متقدمة بينها اسكندينافية ضمن المتخلفين عن تحديث قوانين حماية الضحايا.
وإذا كان زعماء كوريا الشمالية يعرفون باستخدامهم نوعاً من العبودية يلحظ إجبار مواطنين على العمل لتأمين عملة أجنبية للنظام، ما دفع الأمم المتحدة إلى فرض عقوبات قاسية قبل 3 أعوام لمحاولة إنهاء ومنع اليد العاملة الكورية الشمالية من العمل في الخارج، فإن دولاً أخرى مثل بورما (ميانمار) والهند وباكستان وفيتنام وبعض الدول الأفريقية تطبق هذا النوع من الاستعباد، وأحياناً عبر خطف صغيرات بناء على تقاليد وموروثات.
وبحسب منظمات دولية متخصصة في مكافحة الاتّجار بالبشر، يجري سنوياً استعباد بين 2 و3 ملايين شخص. ويقدر اليوم وجود 12 مليون إنسان يعيشون حالة رق في سوق العمل حول العالم.