يُحكى في التاريخ المصري أنّ صحافياً يُدعى إسماعيل المهداوي أودعه جهاز المخابرات العامة في مستشفى للأمراض العقلية خلال عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ومكث فيه نحو خمسة عشر عاماً على الرغم من عدم إصابته بأية اضطرابات نفسية وعقلية وذلك لمجرد كونه ماركسياً معارضاً لنظام الحكم.
وتشير الرواية المتداولة في الوسط الصحافي إلى أن أزمة المهداوي مع نظام حكم عبد الناصر بدأت عندما طالب بإجازة من جريدة الجمهورية التي كان يعمل فيها من أجل استكمال رسالة الدكتوراه في فرنسا، لكنه فوجئ بفصله تعسفياً، فرفع دعوى قانونية بحق الجريدة وأصر على استرداد حقه كاملاً، ودخل في خصومة مباشرة مع النيابة العامة من أجل تنفيذ الأحكام القضائية التي حصل عليها. إلا أن إصراره لم يعجب السلطات، فقررت النيابة العامة تحويله إلى مستشفى للأمراض العقلية بادعاء أنه مجنون، ليمكث فيه نحو خمسة عشر عاماً على الرغم من أن إدارة المستشفى أكدت أنه لا يعاني من أية اضطرابات نفسية أو عقلية.
يعيد التاريخ نفسه مجدداً في سيناريو شبيه ونظام حكم مماثل مع الخبير الاقتصادي أيمن هدهود الذي توفي في ظروف غامضة، بعد إلقاء القبض عليه واختفائه منذ مساء الثالث من فبراير/ شباط الماضي، وإيداعه في مستشفى العباسية للصحة النفسية. وعمد النظام المصري إلى إخفاء هدهود قسرياً. وقالت أسرته وحقوقيون إنه تعرض للتعذيب ما أدى إلى وفاته.
لم تعلن أسرة هدهود القبض عليه وإخفاءه قسرياً إلى أن أُبلغت بخبر وفاته، آملة في حل الأزمة سياسياً. قرارٌ عادة ما تتخذه العديد من عائلات المعتقلين السياسيين وضحايا الإخفاء القسري في مصر، خشية بطش الأجهزة الأمنية بهم في حال التصعيد وإثارة القضية على وسائل التواصل الاجتماعي.
ووري جثمان هدهود الثرى بعدما أجبرت أسرته على حذف صور جثمانه في ثلاجة الموتى في مستشفى العباسية، والتي أظهرت وجود كسور في الجمجمة وعلامات تعذيب، في مقابل تسليمهم الجثة، كما أعلن شقيقه. وصحيح أنه تم تشريح الجثة قبل الدفن، لكن لم يصدر تقرير من الطبيب الشرعي عن سبب الوفاة.
توفي هدهود في 5 مارس/ آذار الماضي، أي قبل 35 يوماً من إعلام السلطات المصرية أسرته بوفاته، وقد وضع في ثلاجة المستشفى طوال هذه المدة. وأعلن عضو مجلس نقابة الأطباء المصريين أحمد حسين، أن هدهود توفي في مستشفى العباسية قبل فحصه من اللجنة الثلاثية المشكلة من قبل النيابة العامة. وطالب في بيان نشره على مواقع التواصل الاجتماعي بتشكيل لجنة محايدة على غرار المجلس القومي لحقوق الإنسان والنقابة العامة لأطباء مصر، تتولى مهمة تقصي الحقائق في واقعة وفاة هدهود وجميع الوفيات في مستشفى العباسية خلال عام مضى، وأن يكون لهذه اللجان الحق في الاطلاع على الملفات بقرار من النائب العام.
ويقول حسين إن المعلومات المتداولة والأقرب للصواب تفيد بأن هدهود احتجز في المستشفى في قسم الطب الشرعي منذ منتصف فبراير/ شباط الماضي، وتعرض لوعكة صحية ما استدعى نقله عبر سيارة إسعاف إلى مستشفى حكومي. إلا أنه توفي قبل نقله بسبب انتظار وصول حراسة أمنية لمرافقة سيارة الإسعاف، وذلك في الخامس من مارس/ آذار الماضي، وتم حفظ جثمانه في ثلاجة المستشفى حتى 9 إبريل/ نيسان الجاري. ويشير إلى وجود تكهنات تتعلق بإصابات جسدية وتفسيرات لمكوث جثة المتوفى أكثر من شهر بثلاجة المستشفى، مطالباً الأمانة العامة للصحة النفسية في وزارة الصحة والسكان وإدارة مستشفى العباسية بعقد مؤتمر صحافي لتوضيح ما حصل.
ملابسات وغموض وفاة هدهود حركت على ما يبدو، وللمرة الأولى، جهات رسمية طالبت بتحقيقات رسمية وشفافة تمهيداً لإعلان النتائج. ولم يسبق أن تحركت في حوادث مماثلة لأفراد توفوا نتيجة التعذيب أو من أجل غيرهم من المخفيين قسراً. وأصدر المجلس القومي لحقوق الإنسان بياناً طالب فيه "بضرورة شمول تحقيقات النيابة العامة لكل ما أثير حول ادعاء تعرض هدهود للإخفاء القسري قبل وفاته".
البيان الذي حمل توقيع رئيسة المجلس القومي لحقوق الإنسان السفيرة مشيرة خطاب، أفاد بأن "على المجلس القومي لحقوق الإنسان أن يقوم بالتنسيق والتواصل مع النيابة العامة ووزارة الداخلية بشأن جميع دعاوى الاختفاء القسري التي تلقتها منظومة الشكاوى منذ تشكيل المجلس الجديد والبالغ عددها 19 دعوى، فضلاً عن جميع الشكاوى المتعلقة بادعاءات تجاوز مدد الحبس الاحتياطي أو إساءة المعاملة سواء في فترات الحبس الاحتياطي أو قضاء العقوبة". وهذه هي المرة الأولى التي يتعامل فيها المجلس القومي لحقوق الإنسان بشكل مباشر مع قضايا التعذيب في مقار الاحتجاز وملفات الإخفاء القسري والحبس الاحتياطي المطول وإساءة المعاملة.
وأحد أسباب التحرك هو أن هدهود كان عضواً في حزب الإصلاح والتنمية برئاسة عضو مجلس حقوق الإنسان والسياسي البارز محمد أنور عصمت السادات، الذي قاد منذ أكثر من عام عملية التوسط لدى الأجهزة الأمنية بخصوص المعتقلين السياسيين، عقب الإعلان عن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان. ويأتي تدخل المجلس القومي لحقوق الإنسان وتحرك النيابة العامة لتشريح الجثة عقب سنوات طويلة من إنكار جريمة الإخفاء القسري في مصر، وكان آخرها رد الرئيس عبد الفتاح السيسي على سؤال صحافي أجنبي على هامش فعاليات منتدى شباب العالم في يناير/ كانون الثاني الماضي، حول الانتقادات الموجهة لملف حقوق الإنسان والإخفاء القسري في مصر.
وقال السيسي: "أحضروا البيانات والأعداد الكبيرة وقوائم الاختفاء القسري التي تتحدثون عنها، على أن تنشأ لجنة للوقوف عليها، وأنا مستعد لتشكيل لجنة من شباب المنتدى تأخذ كافة البيانات التي يتم طرحها وتداولها عن أعداد السياسيين المعتقلين والاختفاء القسري والوقوف على حقيقة ذلك. وعند الانتهاء، تقوم اللجنة بإعلان نتائجها على العلن، على أن تكشف إذا ما كان يتم تداوله حقيقياً أو لا. أحياناً، لا تكون البيانات دقيقة والمواضيع لا تكون كاملة".
في مقابل كل هذا الإنكار من السلطات المصرية حيال ظاهرة الاختفاء القسري، رصدت منظمات حقوقية محلية ودولية أعداداً مروعة للمخفيين قسرياً في مصر على مدار السنوات الماضية. وتعرّف الأمم المتحدة الإخفاء القسري بأنه "القبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغماً عنهم أو حرمانهم من حريتهم على أي نحو آخر، على أيدي موظفين من مختلف فروع الحكومة أو مستوياتها، أو على أيدي مجموعة منظمة، أو أفراد عاديين يعملون باسم الحكومة أو بدعم منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو برضاها أو بقبولها، ثم رفض الكشف عن مصير الأشخاص المعنيين أو عن أماكن وجودهم، أو رفض الاعتراف بحرمانهم من حريتهم، الأمر الذي يجرد هؤلاء الأشخاص من حماية القانون".
ووثقت حملة "أوقفوا الاختفاء القسري" ما بين 30 أغسطس/ آب 2015 وحتى أغسطس/ آب 2020 ما مجموعه 2723 حالة اختفاء قسري، يضاف إليها 306 حالات اختفاء قسري حتى أغسطس/ آب 2021، أي ما مجموعه 3029 حالة خلال السنوات الست منذ إطلاق الحملة.
وصدر تقرير عن مركز الشهاب لحقوق الإنسان يتعلق بجريمتي الاختفاء القسري والانتهاكات في مقار الاحتجاز نهاية عام 2020، رصد عدد المختفين قسراً في مصر خلال سبع سنوات بدءاً من وصول النظام الحالي إلى سدة الحكم نحو 11,224 حالة تشمل كافة الأعمار في المجتمع المصري، من ضمنها 3045 حالة إخفاء قسري عام 2020 وحده، فضلاً عن قتل 59 مخفي قسراً خارج نطاق القانون من قبل الدولة بعد ادعاء تبادل إطلاق نار وإعلان مقتلهم رغم توثیق اختفائهم السابق عن هذا الإعلان.
قضية مقتل هدهود تعيد إلى الأذهان قضية جوليو ريجيني، الباحث وطالب الدكتوراه الإيطالي الذي عثر عليه في صحراء مدينة السادس من أكتوبر بالقرب من طريق مصر الإسكندرية الصحراوي، وعليه آثار تعذيب وحشية، بعد 10 أيام من اختفائه في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2016.
وكما هو الحال مع قضية هدهود، فقد شهدت قضية وفاة ريجيني غموضاً حول أسباب الوفاة، علماً أن آثار التعذيب الوحشي كانت بادية على جسده لدرجة تشويهها، حتى أن والدته لم تتعرف على إبنها إلا من خلال "طرف أنفه"، الأمر الذي دفعها إلى القول: "قتلوه كما لو كان مصرياً". في هذا الإطار، لا تكمن المشكلة في الاختفاء القسري فقط، بل باقترانه بالتعذيب الممنهج الذي تتبعه السلطات الأمنية كما توثق منظمات حقوقية دولية ومحلية.
وفي أحدث تقرير لمنظمة العفو الدولية عن حالة حقوق الإنسان في مصر خلال عام 2021، قالت في ما يتعلق بحالات الاختفاء القسري عام 2021، إن السلطات المصرية أخضعت مئات المعتقلين للاختفاء القسري في مقر قطاع الأمن الوطني وأقسام الشرطة وغيرها من الأماكن غير المعلومة، فضلاً عن التعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة. وأكدت المنظمة تعرض المحتجزين للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة، من بينها الضرب والصعق بالكهرباء والتعليق في أوضاع مؤلمة والحبس الانفرادي لأجل غير مسمى في ظروف مزرية. ولقي ما لا يقل عن 56 محتجزاً حتفهم في الحجز من جراء تعرضهم لمضاعفات طبية، وتوفي أربعة آخرون عقب ورود أنباء عن تعرضهم للتعذيب. ولم تقم السلطات بالتحقيق في أسباب وملابسات هذه الوفيات.
وفي إبريل/ نيسان الجاري، نشرت الجبهة المصرية لحقوق الإنسان ومبادرة الحرية تقريراً وثق 655 حالة عنف جنسي ارتكبت بحق محتجزين في السجون المصرية في الفترة من 2015 وحتى 2022، وخلص إلى أن السلطات المصرية استخدمت العنف الجنسي أثناء عملية الاحتجاز كوسيلة للتعذيب ومعاقبتهم وإخضاعهم لسيطرة السلطة.
وطبقاً للتقرير الذي صدر بعنوان "لا أحد آمن.. العنف الجنسي خلال دورة الاحتجاز في مصر من 2015 وحتى 2022"، كانت مقرات الأمن الوطني مسرحاً لـ 80 في المائة على الأقل من إجمالي الانتهاكات الموثقة، وغالباً ما تم احتجاز الأشخاص في مقرات جهاز الأمن الوطني خلال فترات الاختفاء القسري، ما يؤكد الطبيعة المتعمدة والمنهجية للعنف الجنسي ضد المحتجزين، وتمكين ضباط الدولة من تعنيف المحتجزين بوحشية خلال هذه الفترة.
وخلص التقرير أيضاً إلى استخدام الاعتداء الجنسي عمداً بهدف انتزاع المعلومات والاعترافات من المحتجزين، والتي استخدمت في ما بعد "كدليل" في المحاكمات، بما في ذلك في محاكماتهم في قضايا إرهاب. وفي حالة واحدة على الأقل، تم استخدام "الأدلة" التي تم انتزاعها من أحدهم خلال فترة العنف الجنسي في محاكمة أسفرت عن إعدامه.