اجتماع "سيجس"... من الجزائر إلى هزيمة النازيين

22 أكتوبر 2022
موقع "سيجس" معلم للسياحة التاريخية (العربي الجديد)
+ الخط -

على جانب طريق غربي مدينة مسلمون الساحلية في ولاية تيبازة الجزائرية، يتواجد موقع "سيجس" الذي شهدت جدرانه تفاصيل حدث تاريخي كبير أسس لنهاية أكبر حرب شهدتها البشرية في القرن العشرين، وتمثل في استضافة الاجتماع السرّي الذي عقدته القيادات العسكرية لجيوش الحلفاء ليل 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1942، وأفضى إلى وضع خطة حققت النجاح المطلوب في تنفيذ مهمة طرد الجيش الألماني النازي من شمال أفريقيا في مرحلة أولى، ثم من أراضي فرنسا المحتلة في مرحلة لاحقة، تمهيداً لتحرير أوروبا كلها وإنهاء الحرب.
يقول عضو جمعية بوهلال الثقافية وأحد المهتمين بتاريخ المنطقة إلياس عزيبي لـ"العربي الجديد"، إن "الاجتماع ترأسه الجنرال الأميركي مارك واين كلارك الذي اختار الموقع بعد مشاورات أجراها مع قادة في الجيش البريطاني ومقاومين فرنسيين اقترحوا عليه أن يختار موقع مزرعة امتلكها إسباني يدعى جيمس المتزوج من بريطانية ولديه ابن ضابط في الجيش البريطاني كان زار والديه خلال عطلة، ونقل إعجابه بالموقع إلى ضابط بريطاني الذي اقترح بدوره المكان على كبار قادة الجيش من أجل اختياره لاحتضان الاجتماع التاريخي، خاصة أن الحلفاء لم يملكوا إلا خيار تحديد مكان الاجتماع في شمال أفريقيا، في ظل اشتداد وتيرة الحرب في أوروبا".

حمل الموقع اسم "سي جيمس" في البداية، والذي اختصر إلى "سيجس" لاحقاً، وتميز بأنه لا يثير الشبهات، ويتضمن مداخل عدة، ويطل على موقع بحري ذي مياه عميقة، ما يسمح بأن ترسو الغواصات في الموقع من دون أن تثير انتباه سكان المنطقة. والتحق الجنرال واين بالموقع عند الساعة الواحدة والنصف ليل 20 أكتوبر/ تشرين الأول 1942 بعدما قدم على متن غواصة، ثم غادره عند الساعة الخامسة والنصف من فجر 22 أكتوبر/ تشرين الأول، أي بعد ساعات قليلة من انتهاء الاجتماع. 
ورغم أن الأهالي وسكان المنطقة شككوا في الحركة الكبيرة التي دارت حول الموقع حينها زعم جيمس تنظيم حفلة ميلاد، وتعمد إخفاء القادة في مخازن موجودة في الموقع لضمان عدم كشف وجودهم، وإنجاح الاجتماع. لكن اللافت أن السرية الكبيرة التي ميّزت اللقاء لم تمنع الصحافة العالمية من كشف تفاصيله، ونقل أخبار عن "توقيع الأميركيين والإنكليز والمقاومين الفرنسيين اتفاقاً غربي الجزائر وضع خطة محكمة لطرد النازيين من شمال أفريقيا في مرحلة أولى، ثم من مواقع أخرى في مرحلة لاحقة تمهيداً لفتح جبهات جديدة على قوات الزعيم النازي أدولف هتلر تساهم في تشتيتها وإضعافها في شمال أفريقيا أولاً، ثم باقي بلدان أوروبا".
ومن خلال ما تناولته كتب تاريخية وروايات متعددة عن الحدث، أجمع المؤرخون على أن اجتماع القادة العسكريين للحلفاء في موقع "سيجس" حقق الأهداف العسكرية المهمة المنشودة التي أفضت إلى تغيير الخريطة السياسية والإقليمية والعالمية في ذلك الوقت. 

لم يملك الحلفاء إلا تحديد موقع الاجتماع في الجزائر (العربي الجديد)
لم يملك الحلفاء إلا تحديد موقع الاجتماع في الجزائر (العربي الجديد)

وجرى تطبيق الخطط التي اتفق عليها في اجتماع 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1942 عبر تنفيذ الجيش الأميركي تحديداً إنزال "طورش" الشهير على السواحل المغاربية التي كانت حينها تحت الاحتلال الفرنسي الموالي للنازيين. وتزامن ذلك مع تنفيذ القوات البريطانية وتلك التابعة للدولة السوفيتية السابقة عمليات ضد الجيش النازي استهدف فتح جبهات قتال جديدة في شمال أفريقيا، وأثمرت تحرير كل الجزائر والمغرب بعد خوض معارك عنيفة.
وكان ديبلوماسيون أميركيون توقعوا أن يصبح موقع "سيجس" قبلة للسياح القادمين من بلادهم في المستقبل، في حال توفير شروط الانتقال إلى منطقة الموقع للسياحة، سيما بعد استكمال مشروع التأهيل الشامل الذي يتضمن بناء نصب تذكاري يخلد بداية دوران عجلة الحرية الذي جعلت فرنسا وأوروبا حرة من النازية، ما يدخل تيبازة ومنطقة مسلمون الهادئة التاريخ من بابه الواسع.

تحركت بوصلة هزيمة النازيين من "سيجس" (العربي الجديد)
تحركت بوصلة هزيمة النازيين من "سيجس" (العربي الجديد)

وكانت السلطات الفرنسية شيّدت عام 1952 معلماً تذكارياً في الموقع شمل ثلاثة أبواب كبيرة أشارت إلى مشاركة ثلاث دول عظمى في اللقاء. وأضحى الاحتفال بالمعلم التذكاري تقليداً سنوياً نظراً إلى قيمته التاريخية، لكن مجاهدي الكتيبة الحمدانية للولاية الرابعة التاريخية، دمروا جزءاً من المعلم عام 1956، في بادرة هدفت حينها إلى إيصال صوت الثورة الجزائرية إلى العالم. 
وبعد استقلال الجزائر، استقرت عائلات من المنطقة طوال سنوات في موقع "سيجس" قبل أن تقرر السلطات إخلاءه عام 2004، وترحيل سكانه إلى منازل جديدة، والشروع في أعمال تأهيل جزئية شملت تنظيف الموقع ورفع نفايات تواجدت في محيطه. وجرى عرض مشروع لتأهيل الموقع بالكامل على السلطات المركزية، والذي احتاج إلى تمويل كبير.
ودفعت الأهمية التاريخية للموقع وزيارة وفود أجنبية كثيرة له باحثين إلى محاولة اكتشاف شواهد للاجتماع التاريخي، ووزارة الثقافة الجزائرية إلى تصنيفه كمعلم تاريخي، لكنه ما زال يعاني من إهمال، ويحتاج إلى أعمال كبيرة من أجل تحويله إلى وجهة للسياحة التاريخية والعلمية.

 ويؤكد عميد كلية العلوم الإنسانية وأستاذ التاريخ في جامعة شلف، محمد بوقشور، لـ"العربي الجديد"، أن "الوضع الميداني الحالي لموقع سيجس مؤسف، في حين كان يمكن أن تحوّله السلطات إلى معلم سياحي بارز، لكن غياب ثقافة الاهتمام بالسياحة التاريخية جعل الكثير من المواقع مهملة، ولا تحظى بأي تقدير". واقترح مثلاً وضع تماثيل وصور للقادة الذين حضروا الاجتماع التاريخي الشهير من أجل تقريب الطلاب والباحثين من الحدث، ومعايشته افتراضياً".

المساهمون