تنقسم إيطاليا في شأن قانون العقوبات الذي سمح بإطلاق سراح أشهر قاتل في عصابات المافيا جيوفاني بروسكا، بعدما أمضى 25 سنة في السجن. فحتى اليوم ما زالت صقلية، عاصمة عصابات المافيا الإيطالية منذ القرن العشرين، تعيش حالة صدمة من طول يد المافيا التي قتلت أشهر قاضٍ لاحقها في التاريخ، جيوفاني فالكوني، عبر تفجير شحنة وزنها نحو نصف طن وُضعت تحت الأرض لدى مرور سيارته في باليرمو في 23 مايو/ أيار 1992، ما أدى الى مقتل فالكوني وزوجته و3 من حراسه الشخصيين. لكن إطلاق سراح مفجر الشحنة الملقب بـ"جلاد المافيا" بروسكا (64 عاماً)، في 31 مايو الماضي، وقرار منحه بعد أربع سنوات من إطلاقه المشروط هوية جديدة وحماية بعدما أدلى بشهادات ضد رجال المافيا، فجّر نقاشاً بسبب عدد جرائم القتل التي ارتكبها والتي بلغت المائة، بحسب اعترافاته.
والحقيقة أن الرأي العام الإيطالي لم يغفر للقاتل بروسكا، رغم أنه "اعتذر من أهالي الضحايا" من خلال فيديو ظهر فيه مقنعاً قبل 5 سنوات، ونشِر على التلفزيونات الفرنسية ضمن فيلم وثائقي عن المافيا، وزعم فيه أنه "تعلم الأخلاق في السجن".
واعتقل بروسكا عام 1996، بعد أربع سنوات من مقتل القاضي فالكوني. وهو ظل حتى لحظة القبض عليه اليد اليمنى لزعيم عصابة المافيا "كوزا نوسترا" الشهيرة سالفاتور ريناس، المعروف باسم "توتو". ولعلّ اعترافاته للقضاء الإيطالي حول الجرائم التي ارتكبها، هي التي فجّرت الجدل حول قانون العقوبات، خاصة بين أسر الضحايا وبعض المشرعين والسياسيين الذين اطلعوا على تفاصيل الجرائم. ويطالب البعض اليوم بتعديل القانون ليصبح حكم المؤبد لمدى الحياة خلف القضبان بدلأ من 30 سنة حالياً. ويتهم الإيطاليون نظامهم القضائي بأنه "أفلس" بعد إطلاق "جلاد المافيا الأول".
أشهر الجرائم
وبلغ الخوف من المافيا ذروته بعد اغتيال القاضي فالكوني، ما أثار تساؤلات كثيرة حول فساد الشرطة وقدرات المافيا التي عرفت بدقة موعد هبوط طائرة القاضي في المطار البديل، وهو غير المطار الذي كان مقرراً الهبوط فيه، يوم التفجير. ولم يمض شهر على اغتيال القاضي الأشهر في ملاحقة عصابات المافيا حتى أردت العصابة زميله القاضي باولو بروسيلنيو.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 1993، بعد أكثر من عام على مقتل القاضي فالكوني، خطف بروسكا، بأوامر من زعماء المافيا، صبيا في الـ12 من العمر يدعى جوزيبي دي ماتيو حين كان يتدرب على ركوب الخيل خارج باليرمو. حضر القاتلان بزي الشرطة وأبلغاه بأنه يستطيع مقابلة والده سانتينو الذي ترك المافيا وخضع لحماية الشرطة بعدما قدم معلومات مهمة عن عصابة "كوزا نوسترا". ولأن المافيا اعتبرته خائناً، توجب تأديب سانتينو دي ماتيو فخطف القاتلان ابنه بعدما أوهماه بأنه يمكنه الالتقاء بأبيه الذي لم يره منذ فترة. بعد الخطف ساوم رجال سالفاتور رينا الوالد على سحب شهادته من أمام القضاء. وبقي الطفل في حوزة العصابة في أحد الأقبية لمدة عامين، بحسب اعترافات الجلاد بروسكا، قبل أن يقتله بيديه خنقاً وتذاب جثته في الأسيد، بحسب اعترافاته الصوتية في التحقيق والتي جرى تسريبها عام 1997.
وأفزع قتل الطفل الشارع الصقلي والإيطالي عموماً، خصوصاً بعد انتشار تفاصيل التعذيب التي تعرض لها في مزرعة مهجورة، وتأكيد عجز الشرطة، المتهمة بدورها بأنها مخروقة من المافيا، عن الوصول إليه طوال عامين من الاحتجاز.
كان صيت الجلاد يُثير رعب المجتمع الصقلي، فجيوفاني بروسكا لُقب قبل اعتقاله بـ"الخنزير" و"الجزار المسيحي". وهو أقرّ أيضاً بمسؤوليته عن قتل سيدة حامل جرى تعذيبها حتى الموت أمام زوجها المتهم بـ"الخيانة".
ومع تلقيه قرار إطلاق سراح أبدى سانتينو دي ماتيو، والد الطفل، الذي ما زال يعيش في مكان سري، شعوره بالمرارة، وقال: "قبل عام أطلقوا سراح مشاركين في خطف ابني جوزيبي، والآن يطلقون جلاده، لا أفهم كيف يسمح القانون بذلك؟".
ونقلت صحيفة "لا ريبوبليكا" عن أرملة أحد الحراس الشخصيين الذي قتل في استهداف القاضي فالكوني أن "الدولة ضدنا، فحتى بعد 29 سنة من الحادثة ما زلنا لم نعرف الحقيقة، والرجل الذي حطم عائلتي أصبح حرّاً اليوم". أوساط روما توعدت بعد الإفراج عن الجلاد بروسكا بتقديم مقترحات لتعديل القوانين، كي تسري عقوبة السجن مدى الحياة على الجرائم المتعلقة بأعمال المافيا، وليس الحد الأقصى المقدر بـ30 سنة المطبق اليوم في قانون العقوبات. ووعد عمدة عاصمة صقلية، باليرمو، المنتمي إلى الحزب الاجتماعي الديمقراطي، ليولا أورلاندو، بالعمل لتغيير القوانين. وقال لصحيفة "إل مسياجيرو": "هذه اللحظة تؤكد حاجتنا الكبيرة للحقيقة والعدالة في البلاد". من جهته، انتقد زعيم الحزب الديمقراطي إنريكو ليتا إطلاق سراح "الجزار"، وقال: "ما حصل بمثابة لكمة جرى توجيهها إلى معدتنا". لكنه ذكر أن القانون الحالي يُساعد في حماية أعضاء مافيا كثيرين لدى تعاونهم مع القضاء. وأبلغت شقيقة القاضي فالكوني، ماريا فالكوني، صحيفة "لا ريبوبليكا"، أنه رغم حزنها على إطلاق بروسكا لكن ذلك يتماشى مع إرادة شقيقها الذي كان قد وضع قانون مكافحة جرائم المافيا، وساهم في إبرام صفقات مع منشقين عن المافيا، من دون أن يدري أنه سيكون الضحية التالية لهذا القانون الذي منح قاتله وقاتل مائة شخص (بعض الصحف تنسب إليه 150 جريمة)، حرية العيش بقية حياته في حماية نظام العدالة ذاته الذي صممه مع قضاة آخرين جرت أيضاً تصفيتهم.