"لسنا مؤهّلين لذلك، وحياتنا لا تحتمل شخصاً ثالثاً". هكذا يجيب لياو بينغ (34 عاماً) عند سؤاله عن سبب إحجامه عن الإنجاب على الرغم من مرور خمسة أعوام على زواجه. أمّا زوجته شياو ما (31 عاماً) فتردّ بابتسامة: "ما حاجتنا إلى طفل إذا كان سوف يُربّى في كنف جدّته؟ كلانا مشغول بالعمل، ولا وقت لدينا حتى لإدارة شؤون منزلنا الصغير". منذ زفافهما في صيف عام 2016، اتّفق الزوجان الصينيان على قضاء حياتهما من دون أطفال، وعلى الانفصال عندما يفكّر أحدهما بالإنجاب. وعن هذا العهد، يقول لياو بينغ الذي يعمل محاسباً في شركة تجارية بالعاصمة بكين، "قضيت عامَين قبل الزواج وأنا أبحث عن فتاة ترضى بشروطي. وبعد عناء طويل، تمكّنت من العثور على الزوجة المناسبة. هي تفكّر مثلي، ومقتنعة تماماً بأفكاري". يضيف لياو بينغ لـ"العربي الجديد": "ولدت وحيداً لأسرتي، وتربّيت في منزل جدتي إلى أن توفيت وأنا في العاشرة من عمري. بعد ذلك أخذني أبي إلى منزل جدي في مدينة أخرى، وفي الخامسة عشرة من عمري دخلت مدرسة خاصة. لم أحظَ برعاية أسرية مكتملة، فوالداي كانا مشغولين دائماً إذ إنّ راتباً واحداً لا يكفي لتغطية مصاريف العائلة، لذلك كان على الاثنين العمل بشكل متواصل". ويؤكد لياو بينغ "اليوم لا أريد أن أكرّر المأساة نفسها وأنجب طفلاً وحيداً يربّى على هامش الحياة والمجتمع".
تقول الباحثة الاجتماعية إيمي تان لـ"العربي الجديد" إنّها "قصة جيل كامل ولد وترعرع في ظروف اجتماعية غير تقليدية، بسبب سياسة الطفل الواحد التي انتهجتها الصين في أواخر سبعينيات القرن الماضي (1978) واستمرّت حتى نهاية عام 2015. وعلى الرغم من سماح الحكومة بإنجاب طفلَين(أعلنت وكالة الصين الجديدة الرسمية للأنباء "شينخوا"، أمس، نقلاً عن اجتماع للمكتب السياسي للحزب الشيوعي برئاسة رئيس البلاد شي جينبينغ، أن الصين ستلغي الحدّ الأقصى للإنجاب المحدد بطفلين وستسمح للعائلات بثلاثة أطفال)، فإنّ الأزواج يرفضون حتى إنجاب طفل واحد"، عازية ذلك إلى "الآثار النفسية والاجتماعية الناجمة عن تلك السياسة". وتوضح أنّ "كثيرين من الشباب نشأوا في بيئة اجتماعية غير صحية بسبب غياب الأب والأم المتكرر، وبالتالي عانى أكثر من 65 في المائة من جيل التسعينيات، من مشكلات نفسية مثل الاكتئاب والعزلة والشعور بالدونية. لذلك فضّل بعض منهم عدم الانخراط في المجتمع. كذلك برزت ظواهر أشدّ خطورة، مثل التفكير بالانتحار". وتلفت إمي تان إلى أنّ مركز التأهيل النفسي الذي تعمل فيه بالعاصمة "يستقبل يومياً عشرات الشبان الذين يعانون من اضطرابات نفسية، والمشكلات بمعظمها لها علاقة بموضوع الارتباط والاتصال بالآخر". وتحذّر إمي تان من أنّ "استمرار الوضع على ما هو عليه، قد يؤدّي إلى مشكلات اجتماعية خطيرة تعزّز الفجوة بين الأجيال وتهدم مفهوم الأسرة في المجتمع الصيني".
عزوف عن الزواج
ثمّة ظاهرة أخرى تنطلق من أساس واحد، وهي عزوف الشباب عن الزواج. بحسب مكتب وزارة الشؤون المدنية الصينية، سُجّل 8.1 ملايين زواج فقط في خلال عام 2020، بانخفاض بنسبة 12 في المائة عن العام الذي سبقه، وهو الرقم الأدنى في البلاد منذ نحو عقدَين. كذلك أظهرت دراسة محلية حديثة أنّ 64 في المائة من الشابات اللواتي استُطلعت آراؤهنّ، لا يخطّطنَ للزواج أو البحث عن شريك ويفضّلنَ البقاء عازبات. بالنسبة إلى فانغ فانغ وهي صحافية صينية في عقدها الثالث، فإنّ "الزواج مؤسسة تقيّد طموح المرأة وتجعلها مجرّد أداة للتفريخ".
تضيف لـ"العربي الجديد": "لطالما تشاجرت مع أمي بسبب إلحاحها المستمرّ عليّ بالزواج. ثمّة فجوة كبيرة بيني وبينها، فنحن لم نعد ذلك الجيل الذي يعتمد على الرجل في كلّ شيء. أنا الآن مستقلة مادياً ولا أظنّ أنّ الزواج ضروري بالنسبة إلي كي أعيش حياة سعيدة وكريمة، بل بخلاف ذلك قد يجلب لي المتاعب إن لم أوفّق في زوج مثالي". وتوضح فانغ فانغ أنّ "نمط الحياة الصناعية وفّر فرص عمل عديدة للمرأة، فلم تعد في حاجة إلى ملازمة المنزل للاعتناء بالزوج والأبناء كما كانت تفعل أمي وجدتي". لكنّها تؤكد "لست ضد فكرة الارتباط إذا تقدّم لي شخص يقدّرني ويحترمني، غير أنّني لن أكون في الوقت نفسه الطرف المبادر في البحث عن شريك".
كارثة وطنية؟
وعن هذه الظاهرة، يقول وو بينغ وهو متخصص في علم الاجتماع في مركز البحوث والدراسات الاقتصادية في مقاطعة لياونينغ، إنّ "فانغ فانغ تمثّل شريحة من جيل ليس في عجلة من أمره في ما يتعلق بالارتباط والزواج. ويعود ذلك إلى التقلبات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها الصين في خلال العقود الأخيرة". ويوضح وو بينغ لـ"العربي الجديد" أنّ "استقلال المرأة الصينية في خلال العقد الأخير، سبب رئيسي في ارتفاع نسبة العنوسة في البلاد، لا سيّما أنّه منح المرأة ترف الاختيار. فصارت الأولوية للتقدير والودّ العاطفي على حساب العلاقة المادية".
يضيف وو بينغ أنّ "آثار ذلك لن تنعكس فقط على الفرد أو المجتمع، بل على الصين ككيان ودولة، والأرقام الصادرة عن دائرة الإحصاء تدعو إلى القلق. فسبعة أشخاص فقط يتزوجون من بين كلّ ألف شخص، و50 مليوناً من بين 200 مليون عازب لا يفكّرون بالزواج إطلاقاً". ويتابع أنّ "الهيئات الحكومية قلقة جداً بشأن العواقب الناجمة عن اتساع هذه الظاهرة، نظراً إلى ارتفاع معدّلات الشيخوخة وتراجع نسبة الشباب الذين يمثّلون فئة الأيدي العاملة"، مؤكداً أنّ "ذلك ينذر بكارثة وطنية حقيقية".
تجدر الإشارة إلى أنّ عدد المواليد الجدد في الصين التي تُعَدّ الدولة الأولى لجهة عدد السكان في العالم، شهد انخفاضاً حاداً في خلال العام الماضي، بنسبة 15 في المائة مقارنة بالعام الذي سبق. وهو بالتالي أقلّ بكثير من 14 مليوناً، مقارنة بالمتوسط السنوي البالغ 16 مليوناً. ووفقاً لتقديرات حكومية، من المتوقّع أن ينخفض عدد سكان الصين إلى أقلّ من 800 مليون نسمة بحلول عام 2100، علماً أنّ عددهم اليوم يتخطّى ملياراً و400 مليون نسمة. كذلك من المتوقع أن يصل عدد الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً إلى 300 مليون بحلول عام 2025.