بدأت إسبانيا نبش المقابر الجماعيّة التي تعود إلى فترة الحرب الأهلية التي اندلعت في 17 يوليو/ تموز عام 1936 وامتدت حتى الأول من إبريل/ نيسان عام 1939. فبعد مرور أكثر من 80 عاماً على بداية مجازر ارتكبها الدكتاتور الإسباني، فرانشيسكو فرانكو، ورئيس حزب الكتائب الفاشي (الفلنجا)، والذي امتد حكمه حتى 1975، تسعى البلاد إلى التخلص من إرث الديكتاتورية، ومحاولة الإجابة على أسئلة أهالي وأقرباء الضحايا. ويُعتقد أنّ المقابر الجماعية تضمّ رفات نحو 200 ألف قتيل جرى إعدامهم جماعياً، من أصل 600 ألف قتيل سقطوا خلال الحرب الأهلية.
وتُشير أبحاثٌ يجريها متخصصون في رصد آثار الحرب الأهلية، وانعكاساتها على المجتمع الإسباني، إلى أن المذابح التي ارتكبتها الديكتاتورية الفاشية كانت ممنهجة دائماً. ووفقاً لهؤلاء، فقد كانت القوات الفاشية تحاصر وتسيطر على القرى الإسبانية وتجمع الأهالي في ساحاتها، وتقوم عصاباتها بالتحقيق مع السكان لتحديد معارضي فرانكو وحركته ليصار إلى إعدامهم، بعدما يجري سوقهم إلى خارج القرى والمدن التي دخلها أتباع فرانكو. عمليات الإعدام، وفقاً لشهادات من نجوا من المذابح الجماعية وصور متاحف الضحايا، كانت تجري من خلال إطلاق الرصاص على رؤوس السكان، ثم يرمون في حفر كبيرة ويغطون بالتراب. ومعظم المذابح التي يجرى التحقيق حولها هذه الأيام، في إطار ما تقوم به حكومة الاشتراكي بيدرو سانشيز منذ العام الماضي للتخلص من تمجيد حقبة الديكتاتورية، نفذت من أتباع فرانكو، الذي لم يتخلص المجتمع الإسباني نهائياً من الجروح التي تسبب بها حتى بعد وفاته في عام 1975، والتأسيس لديمقراطية حديثة في البلاد.
الجراح التي تسببت فيها الحرب الأهلية الإسبانية، وحقبة الفاشية تعد مؤلمة في مجتمع متدين بسبب ما سجله المؤرخون من تحالف القوميين الفاشيين مع الكنيسة الكاثوليكية بوجه "الجبهة الشعبية" التي ضمت أحزاب الوسط والاشتراكيين والشيوعيين والفوضويين، والتي انضم إليها متطوعون من أنحاء أوروبا للقتال في صفوفها.
ومنذ عام 1975، ظل الإسبان يحاولون الكشف عن حقيقة ما جرى بعد عام 1936. ففي العام الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية، فاز تحالف "الجبهة الشعبية" بالانتخابات، وأصيب القوميون بخيبة من جراء تصويت غالبية الشعب للاشتراكيين والشيوعيين والبرجوازيين. واستطاع الفاشيون إيجاد تحالف ضم الكنيسة بسبب ذهاب "الجبهة الشعبية" نحو تقديم برامج إصلاحية كان من شأنها إلغاء امتيازات تمتعت بها الكنيسة، والسماح بالحكم الذاتي في إقليمي كتالونيا والباسك، ما ألب أنصار "الملكية ووحدة المملكة" عليهم، وجعل فرانكو يستغل تلك الأجواء لتنفيذ خطته للاستيلاء على الحكم في الأول من إبريل/ نيسان 1939، وكانت النتيجة إلغاء الديمقراطية.
نظرياً، بدأت إسبانيا فتح ملفات القبور وأحداث الحرب الأهلية والإخفاء القسري قبل نحو 20 سنة. ومنذ عام 2000، لم يجر سوى التعرف على 7 آلاف ضحية. وعليه، بدأت الحكومة التسريع في فتح ملفات المقابر الجماعية المنتشرة في عموم البلاد. وشهد عام 2014 اكتشاف مقبرة جماعية ضمت رفات 26 جمهورياً (من معارضي الفاشية) جرى إعدامهم في بلدة إيبار (شمال البلاد). وتبين أن تاريخ المقبرة يعود للفترة الممتدة ما بين 1939 و1940، أي بعد الحرب الأهلية، وهي من جملة الإعدامات التي طاولت معارضي الفاشية. ورغم مرور أكثر من 80 سنة على دفن هؤلاء الأشخاص، إلا أن تقدم العلم، وبالأخص التعرف على الضحايا من خلال الحمض النووي، ربما يقدم أجوبة على أسئلة كثيرة تحير المجتمع الإسباني وبعض أحفاد الضحايا وأقاربهم الذين ما زالوا على قيد الحياة.
ومع تسارع نبش القبور الجماعية، واستفادة أطباء الطب الشرعي الإسبان من تجارب زملاء لهم في أوروبا ساهموا في الكشف عن هويات ضحايا مقابر جماعية في البوسنة والهرسك وكوسوفو، يبدو أن الآمال بالإجابة على أسئلة المرحلة المظلمة من تاريخ البلاد تتوسع مع اتساع الكشف عن هوية الضحايا والإجابة على أسئلة أقارب لهم، مع اهتمام شعبي بالقضية على وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة الجوانب المظلمة من تاريخ بلدهم.
ومع بداية يونيو/ حزيران الجاري، كانت أعمال التنقيب قد بدأت في مقبرة "ألماغرو"، والتي تقع على بعد نحو ساعتين إلى الجنوب من العاصمة مدريد. ويستعين المحققون والباحثون بخرائط جرى تحديثها للتعرف على مناطق القبور الجماعية في جميع أنحاء إسبانيا. ويجري تحديث الخريطة، لتحديد المقابر التي حفرت باللون الأحمر وقد أمكن التعرف على الضحايا فيها، واللون الأخضر للمقابر التي لم تنبش بعد، والأصفر لتلك التي جرى نقل جثث الضحايا إليها خلال فترة حكم فرانكو، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "إل باييس" قبل ثلاث سنوات.
ويقول أستاذ جامعة آرهوس الدنماركية، والمتخصص بالحرب الأهلية الإسبانية، هانس لاوا هانسن، إن أسباب العنف الدموي الذي شهدته إسبانيا "ارتبطت بدموية أخرى تتمثل في عنف البلاد ضد السكان الأصليين في المستعمرات الإسبانية، (سواء في أميركا الجنوبية أو أفريقيا)، فكان ينظر إلى هؤلاء الناس على أنهم أقل قيمة من البشر. بالتالي، حين اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية، تم التعامل مع الجمهوريين في الجبهة الشعبية على أنهم أقل قيمة ولا يستحقون الحياة، ما أنتج دموية كبيرة". ويرى أن "فرانكو استوحى أيديولوجية عرقية من ألمانيا، واعتبر وأتباعه أن الاشتراكية تكمن في الجينات، وبالتالي يجب إبادة جميع الشيوعيين ومؤيديهم". أضاف أن الإعدام الجماعي مارسه الشيوعيون الذين "استهدفوا في بداية الحرب الأهلية حلفاء فرانكو من الكهنة والرهبان والراهبات الكاثوليك، ويعتقد أنهم أعدموا في حمام دم نحو 7 آلاف من هؤلاء، لكنهم توقفوا عن إعدام معارضيهم عام 1937".
وكان الفاشيون بعد إعلان زعيمهم فرانكو النصر في الحرب الأهلية قد باشروا في فتح مقابر مؤيديهم فقط ونقل جثامينهم (خصوصا الرهبان والراهبات) إلى ما عرف باسم "وادي الشهداء"، والذي ضم رفات فرانكو قبل نقله أخيراً بسبب تحوله إلى مزار للفاشيين الجدد.
ويقدر باحثون من جامعات إسبانية أنّ بلدهم يحتل المرتبة الثانية بعد كمبوديا لناحية عدد المقابر الجماعية التي لم تُفتح بعد، ولم يجرِ التعرف على ضحاياها.