قبل أن يخرج من البيت إلى المزرعة يرفع زاكي اليوسف ابن بلدة البارة جنوبي إدلب صوت جهاز اللاسلكي الذي يملكه، ويتأكد من أن الجو يخلو من طائرات حربية أو طائرات الاستطلاع، ثم يمضي على متن دراجته إلى عمله، وقد علق جهاز اللاسلكي أمامه على المقود.
يقول زاكي لـ"العربي الجديد": "الإقامة في المناطق المتاخمة لقوات النظام السوري محفوفة دائماً بالخطر في ظل انعدام الخدمات ومظاهر الحياة اليومية، فهذه المناطق تخلو من المدارس والنقاط الطبية ومراكز التسوق، ما يحتم قطع المقيمين عدة كيلومترات للحصول على بعض المستلزمات الأساسية، فالمحلات الموجودة فيها لا تبيع إلا المواد الغذائية الأساسية والخضار". يتابع أن "انعدام الاستقرار وتكرار القصف بين فترة وأخرى يمنع الأهالي من العودة، فتنعدم مظاهر الحياة بسبب فقدان الكثافة السكانية. وغالبية المقيمين هنا من الفقراء والمعدمين الذين لا يملكون القدرة على استئجار منازل في مناطق أكثر أمناً، أو أيضاً أهالٍ يملكون مواسم زراعية ويجمعون مواسمهم قبل العودة إلى شمال المحافظة مجدداً.
ولا يختلف الأمر كثيراً في بقية مناطق جبل الزاوية، فنيران مدفعية النظام تطاولها كلها، ويحيط الخطر بالجميع. ويقول عبد الرحيم الإبراهيم ابن قرية قوقفين جنوب غربي جبل الزاوية لـ"العربي الجديد": "لا يمكن أن نصنّف المعيشة في هذه المناطق وندرجها في أي خانة، فهي ببساطة منطقة غير قابلة للحياة من الناحيتين الأمنية والخدماتية، ويقيم أشخاص فيها مجبرون بسبب تمسكهم بأراضيهم ومنازلهم لدرجة الاستعداد للموت قبل الخروج منها، أو بسبب عجزهم عن الإقامة في أماكن أخرى". يضيف: "حصلت على خيمة في أحد مخيمات شمال إدلب، لكنني لم أتأقلم مع هذه الحياة التي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة وأي خصوصية، ما دفعني إلى العودة إلى قريتي للإقامة فيها رغم المخاطر المستمرة. ومن اعتاد على الإقامة في بيت عربي بين الأشجار وبساتين الخضار لا يستطيع التأقلم على العيش في سفوح جبلية تغص بالخيام".
وعن آلية التأقلم مع الحياة في هذا المكان يقول عبد الرحيم: "من يرغب في العيش في أماكن خطرة يجب أن يعدّ نفسه، ويعتاد على فقدان الكثير من الأمور على صعيد التسوّق والتنقل بين المحلات لاختيار البضائع الأفضل وتنفيذ زيارات اجتماعية. نشتري هنا مستلزماتنا من محلات محددة بسبب عدم وجود غيرها، وتنخفض الزيارات الاجتماعية إلى الحدّ الأدنى لأن غالبية الأقارب انتشروا في مناطق الشمال، ويجب أن نعتاد على غيابهم وتخفيف زيارة من تبقى منهم بقدر الإمكان خوفاً من حصول تجمعات يمكن استهدافها بأعيرة نارية".
بدوره، يسخر أديب الرجب حين يسأله أحدهم "كيف الحياة في جبل الزاوية؟"، ويجيب من دون تردد "هل من حياة في الأصل؟". ويرى، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن الحاجة والفقر هما ما يجبران الناس على الإقامة في هذه المناطق، ويقول: "حياة أي إنسان في المناطق المتاخمة لقوات النظام معلقة بجهاز اللاسلكي، فهو صمام الأمان الذي يمنح بعض الهامش للتحرك، لكنه يفشل في أوقات كثيرة فالقذيفة الأولى تكون مفاجئة غالباً". يُضيف: "تأتي بقية مشاكل الحياة بعد تلك الأمنية، لكن لا يمكن تجاوزها في أي حال من الأحوال، فغياب الكهرباء واعتماد الأهالي على ألواح الطاقة الشمسية قد يجبرهم أحياناً على قضاء الليالي الشتوية في الظلام نتيجة عجز ألواح الطاقة الشمسية عن شحن البطاريات نتيجة تراكم الغيوم، كما يُعتبر غياب النقاط الطبية والصيدليات من بين أهم المعضلات التي تواجه السكان الذين يضطرون إلى قطع مسافة طويلة للحصول على علاج أو دواء حتى لو كانت حبوباً مسكنة".
أما محمد محمد فيقول لـ"العربي الجديد": يجب أن يعتاد من يقيم في مناطق التماس على اقتناء مواد كافية واحتياطية من كل صنف، مثل الوقود والأدوية ومعدات الإسعاف والمواد التموينية. وحين يشتد القصف يلجأ الأهالي إلى المغاور قرب منازلهم فتتعطل الحياة بشكل كامل. ومن المهم امتلاك فائض من كل صنف، في حين يبقى العثور على الخبز أهم معضلة قد يواجهها الأهالي، ما يضطر بعضهم إلى تحضير الخبز بأيديهم لتجنب التحرك في أوقات التصعيد". يتابع أنه "مع غياب الشمس تهدأ الحركة بشكل عام، وتخلو الطرقات إلا من عابري السبيل، فغياب الأمن يمنع الأهالي من التجوّل بحرية خوفاً من رصد قوات النظام الأضواء واستهدافها، ما يدفع غالبية الأهالي إلى إنهاء أعمالهم قبل المغيب والعودة إلى منازلهم". وبينما تبقى الحياة في المناطق المتاخمة لقوات النظام في ريف إدلب الشرقي وريف حلب الغربي أخف وطأة، مثل سرمين وتفتناز وبنش وغيرها، يقول الناشط أحمد الخطيب لـ"العربي الجديد": "الحياة في ريفي إدلب الشرقي وريف حلب الغربي محفوفة بالمخاطر نتيجة الخوف من توتر المشهد العسكري في أي لحظة، واستهداف قوات النظام هذه المناطق، لكن تبقى مخاوف القصف أكبر هواجس المقيمين في تلك المناطق". ويعتبر الأهالي أن تثبيت قواعد الاشتباك، وإلزام قوات النظام وقف إطلاق النار يساهمان في حل مشكلة السكن وإعادة آلاف العائلات إلى مناطق جبل الزاوية، ما يخفف من الضغط السكاني على مناطق شمال سورية.