تتشكل في الدنمارك غالبية برلمانية تضم نواباً يساريين وآخرين من يمين الوسط لتبني مشروع خاص في الموازنة يساعد نساء بولنديات على القدوم إلى البلاد من أجل إجراء عمليات إجهاض، وذلك رداً على حظر سلطات وارسو هذه العمليات على أراضيها، مع رفضها النظر في أي استثناء يتعلق بحال الجنين، أو حصول حمل بسبب اعتداء جنسي داخل الأسرة، أو التعرض لاغتصاب يجعل المرأة لا ترغب في الاحتفاظ بالجنين.
وتؤيد أحزاب اليسار ويسار يمين الوسط تخصيص 20 مليون كرونه (3.2 ملايين دولار)، على أربع سنوات للسماح لنساء يأتين من بولندا بإجراء عملية إجهاض مجانية، في حين يرغب حزب الشعب اليميني المتشدد بإفادة نساء دنماركيات من هذه الأموال.
انخراط "عالمي"
تعتبر المتحدثة باسم حزب اللائحة الموحدة اليساري برنيلا سكيبر أن الاقتراح "يمنح البولنديات الحق في الإفادة مجاناً من نظام الرعاية الصحية في بلدنا"، مشيرة إلى أن البرلمان رفض مشروع القانون الأول، ما دفعنا إلى تعديله من أجل تأمين غالبية الأصوات، والذي لحظ اقتراح نموذج يخصص موازنة للإجهاض. ونحن نرى أن القانون جزء من الانخراط في قضايا عالمية نعتبرها مصدر اهتمام لنا".
وترفض سكيبر وصف وارسو الإجراء الدنماركي بأنه "لا سابق له في أوروبا على صعيد فتح نظام إحدى دولها باب الرعاية الصحية لنساء أجنبيات يردن الإجهاض، ويمثل تدخلاً في شؤوننا الداخلية".
ويؤيد حزب "راديكال" (يسار وسط)، في الدنمارك بدء القطاع الصحي إجراء العمليات بحلول يناير/ كانون الثاني 2022، علماً أن القائمين على الخطة في الدنمارك سيتعاونون مع شبكة نسوية في بولندا تحمل اسم "إجهاض بلا حدود" لتسهيل انتقال النساء البولنديات اللواتي يردن الإجهاض بسبب حالات مختلفة تتعلق بحال الجنين أو ظروف الحمل، ويقدر عددهن بـ165 سنوياً. ويمارس المشرعون الدنماركيون ضغوطاً على البرلمان الأوروبي لتبني قوانين تسهّل انتقال الراغبات بالإجهاض في أوروبا بين دول في الاتحاد تتيح قوانينها إجراء هذه العمليات، علماً أن مقرر الشؤون الصحية في حزب "راديكال" ستينوس ليندغرين يرى أن إقرار كوبنهاغن القانون "يشكل مصدر ضغط على وارسو من أجل تعديل قوانينها وإعادة حقوق أساسية لسكانها، وصولاً إلى جعل إجراءات مثل الإجهاض في الخارج غير ضرورية".
وتتعرض بولندا والمجر والتشيك وسلوفاكيا لضغوط أوروبية بسبب تطبيقها قوانين متشددة يعتبرها الأوروبيون "خروجاً عن معايير الحقوق الأساسية في القارة العجوز". ويتعلق بعضها بفصل السلطات وقوانين الإعلام والصحة العامة، وقيود الإجهاض المرتبطة بتطبيق حكومات قومية محافظة في هذه الدول توجهات أكثر تديناً، ومعارضتها تقليص عدد السكان. ويكافح رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان تحديداً في سبيل حض نساء بلده على إنجاب مزيد من الأطفال، عبر تقديم مغريات مالية ومحفزات ومساعدات اجتماعية لهن، بعضها لمدى الحياة.
"صدمة كبيرة"
ترى شبكة "الجنس والمجتمع" في الدنمارك أن الخطوة التي اتخذتها سلطات البلاد على صعيد استقبال النساء البولنديات اللواتي يرغبن في الإجهاض "لا تهدف فقط إلى مساعدة هؤلاء النساء، بل إلى توجيه رسالة إلى حكومات دولهن بأن كوبنهاغن مصدومة من القوانين المتشددة التي تطبقها وارسو، والتي تمنع الإجهاض حتى في حالات سفاح القربى أو الاغتصاب، أو تهديد حياة الحامل واحتمال تشوّه الجنين، ما يعني أن وارسو تعرض حياة المواطنين للخطر". ويقول مدير الشبكة بيارنه كريستيانسن: "أعتقد بأن وقع الصدمة كبير حين تمنع قوانين خاصة بالإجهاض تنفيذ حاجات طبية ملحّة للمرأة، وتجبر حوامل رغم تقارير صحية واضحة تشير إلى أن المولود مشوّه، على استكمال الحمل، وصولاً إلى تنفيذ عملية ولادة خطرة عليهن وعلى الأطفال".
واللافت أن هناك تقارير تشير إلى أن حوالى 1100 سيدة حامل يتأثرن سنوياً بمنع الإجهاض، ما يشكل، بحسب كريستيانسن، "وضعاً غير إنساني يحتم مساهمتنا مع المنظمات الشقيقة البولندية في تخفيف أعبائه على النساء".
نسف معايير أوروبية
تنتهج بولندا، التي ينتشر فيها التدين الكاثوليكي بشكل عميق، سياسات متشددة حيال الإجهاض من خلال تجريم جميع النساء اللواتي يجرين عمليات خاصة في السر أو خارج الحدود. وتبنت وارسو، في مارس/ آذار الماضي، عبر المحكمة الدستورية المتهمة بالخضوع للسلطة التنفيذية، بما يتعارض مع قوانين الاتحاد الأوروبي، قرار إلغاء قانون يشرّع الإجهاض صدر عام 1993.
وكان هذا القانون الذي عُدل حينها أحد شروط انضمام بولندا إلى الاتحاد الأوروبي، قبل أن تهيمن الأحزاب القومية المحافظة على السلطة، وتعيد النظر في قوانين اجتماعية كثيرة، في إجراء يعتبر الأوروبيون أنه "ينسف المعايير المطبقة في القارة". وسمح قانون 1993 بالإجهاض في حال اكتشاف عيوب لا يمكن معالجتها في الأجنة، علماً أن التعديل الأخير للمحكمة الدستورية لن يسمح بالتخلص من أجنّة مصابين، وسيجبر النساء على استكمال الحمل ووضع أطفال مشوّهين ويعانون من أمراض خطرة، ما يشكل، بحسب الأوروبيين، "سياسة عبثية بالكامل، تعرّض أيضاً البولنديات لخطر الاستمرار في حمل غير صحي، أو مواجهة عواقب وخيمة لعملية البحث عن إجهاض بطرق بدائية لا يمكن التحكم بنتائجه".
وقد تجاهلت المحكمة الدستورية في بولندا التقييمات الطبية المتخصصة في شأن الحال الصحية والبدنية والعقلية للنساء والأجنّة معاً، في حال فرض استكمال حمل في وضع خطر، وكذلك نتائج استطلاعات للرأي أيّد فيها 70 في المائة من البولنديين منح المرأة حق الإجهاض، خصوصاً في حال استندت الدوافع إلى تقارير طبية.
وأيّد 20 في المائة من المستفتين الإجهاض من دون استثناءات، رغم أن حزب "القانون والعدالة" يعمل منذ عام 2016 لترسيخ مفهوم أن بولندا دولة كاثوليكية ومحافظة، واستبدل قضاة المحكمة الدستورية في سبيل تمرير قوانين أكثر تناسباً مع توجهه لتطبيق إفكار محافظة، وبينها حظر الإجهاض.
"النقاء القومي"
تصرّ المحكمة الدستورية في بولندا منذ عام 2016 على أن القوانين يجب أن تعتمد على معتقدات دينية، وهو ما يسوّقه باستمرار أحد أعضائها أوردو لوريس، المرشح لعضوية مفوضية الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان. والغريب أن لوريس يدعو إلى ضرورة تبني الأوروبيين سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الخاصة بالانسحاب من اتفاق إسطنبول لمكافحة العنف ضد المرأة، ويبشر بجعل بولندا "منطقة خالية من المثلية الجنسية".
وتصاعد الخطاب القومي المحافظ في بولندا والمجر منذ العام 2014، واستهدفت سلطات البلدين مباشرة وصول مهاجرين ولاجئين إلى أراضيهما باعتباره "مصدر تهديد كبير"، رغم أن بولندا لم يدخلها أكثر من 12 ألف لاجئ خلال أزمة اللاجئين في العام 2015، بينما وصل عددهم إلى 163 ألفاً في السويد، و45 ألفاً في الدنمارك، وأكثر من مليون في ألمانيا.
ويسوّق اليمين المحافظ في بولندا والمجر لتقليص حقوق النساء، مع التشديد على دورهن في إنجاب المزيد من الأطفال، والحفاظ على "النقاء القومي"، وهو ما يفعله خصوصاً تحالف حزب "فيديز" اليميني المجري بزعامة رئيس الوزراء فيكتور أوربان.
وينظر بعض الأوروبيين إلى خطوات بولندا والمجر باعتبارها محاولة لفرض النظرة القومية العرقية التي سادت ألمانيا والنمسا خلال القرن التاسع عشر.
وترى بودابست أنها تقود نسخة متحضرة لتعزيز الوعي الذاتي - العرقي والثقافي واللغوي، من خلال فرض هوية وطنية صارمة حول الذات والأجانب.
وعموماً تضع سياسة بولندا والمجر دول الاتحاد الأوروبي في مواجهة مستمرة مع حكومتيهما اللتين تبثان خطاباً قومياً متشدداً يتدخل حتى في قضايا الأقليات العرقية والدينية فيهما. وحتى البروتستانت والمذاهب الأخرى تتعرض إلى تضييق، كما تواجه سيدات متزوجات من خارج البلدين أو من غير الشعوب السلافية معاملة دونية.
ولا تكترث حكومتا البلدين لتلويح بروكسيل بفرض عقوبات عليهما في حال الاستمرار في خرق معايير وقوانين أساسية في القارة، بعدما استطاعتا الهيمنة على وسائل الإعلام، وتقويض قدرات المعارضة.