من النادر جداً مشاهدة طيور وهي تموت، في حين أنّنا قد نشاهدها وهي تسقط ميتة عندما يطلق صيّاد النار عليها من بندقيته. وهي، حتى عندما تكون في طريق الهجرة ويصيبها تعب شديد فوق البحر بعد مقاومتها رياحاً معاكسة، تسقط في البحر بحسب تسجيلات الرادار، ثمّ تلتهمها الأسماك وغيرها من الحيوانات البحرية. ويحصل هذا الأمر كذلك عند عبورها الصحراء وتعرّضها إلى الجفاف، فلا تتمكّن من متابعة السفر، لذا تنزل على الأرض الصحراوية الحارة حيث تموت. لكنّ بعضاً منها قد يعيش في ظلّ الأعشاب التي تحتفظ ببعض المياه في وريقاتها.
ومن المعروف أنّ سبعين في المائة من صغار الطيور تموت في أثناء الهجرة لأسباب متعدّدة. فهل هذا يعني أنّنا رأيناها تموت بأمّ أعيننا؟ الجواب بالتأكيد: كلا. فمعظمها يقتات على الحشرات واللافقاريات وهي بدورها تقع فريسة طيور وحيوانات أخرى من ضمن إطار السلسلة الغذائية. ولأنّ الطيور الصغيرة تقع في قاعدة الهرم الغذائي، لذا فإنّها تفرّخ كثيراً فتشكّل تلك الصغيرة غداءً أو عشاءً لغيرها من الحيوانات، علماً أنّها تنضج وتتزاوج وقد بلغت سنتها الأولى. وكلّما ارتقينا في السلسلة أو الهرم الغذائي، يقلّ تفريخ الطيور الصغيرة ليصل العدد إلى نصف صغير في السنة، أي إلى صغير واحد كلّ سنتَين كما هي الحال مع النسور. يُذكر أنّ سنّ النضوج الجنسي قد تصل إلى 14 سنة كما هي حال طائر القطرس. إذاً، الطيور صغيرة الحجم أو صغيرة السنّ بمعظمها تموت ولا نشاهد موتها، لأنّها إمّا تُفترس من قبل حيوانات مفترسة عموماً أكبر منها حجماً وإمّا تموت من جرّاء مرض يصيبها.
ونظراً إلى أنّ الطيور بشكل عام صغيرة جداً ولها كتلة جسم منخفضة، فمن النادر رؤيتها تتحلل، لأنّ هذا التحلل يحدث بسرعة كبيرة، هذا في حال لم تصل حيوانات مفترسة وأكلة جيف إلى البقايا أوّلاً. وحتى لو لم تظهر تلك الحيوانات المفترسة وأكلة الجيف والعظام، فثمّة حشرات سوف تندفع نحو الجيفة وتلتقط البقايا حتى لا يتبقّى منها شيء. إذاً، نحن لا نرى إلّا في ما ندر الطيور التي تُفترَس في الطبيعة، وقد لا نراها أبداً وهي تُفترس في العشّ من قبل أفعى أو حيوان آخر. ولا يختلف الأمر كثيراً عندما تصاب الطيور بمرض، لأنّ من عادتها في هذه الحال، وعندما تشعر بأنّها ليست على ما يرام، أن تنكفئ في تجاويف الأشجار أو الصخور أو تنزل إلى الأرض لتختبئ بعيداً عن الطيور الأخرى، حتى تساعدها العزلة والراحة في التعافي في بعض الحالات. لكنّها في أحيان أخرى، تموت ببساطة في مخابئها وتتحلل قبل مرور فترة طويلة على موتها.
إنّ موت الطيور في أثناء الهجرة والذي يعود إلى الإرهاق الشديد سببه في الأساس الهجرة نفسها. فالطيور تبدأ في فصل الخريف بالهجرة إلى أماكن أكثر دفئاً، فالبرد القارس في فصل الشتاء لا يجمّدها فقط بل يمنع عنها الوصول إلى الطعام في المناطق المثلجة. وفي طريق الهجرة، قد تصطدم بمبانٍ أو أعمدة أو أسلاك كهربائية أو مراوح الطاقة الهوائية أو تحترق في أثناء مرورها فوق ألواح الطاقة الشمسية. وقد تمرّ في أماكن تلتقط فيها فيروسات مميتة مثل إنفلونزا الطيور أو فيروس النيل الغربي في الوادي المتصدع. ومن الطبيعي أن تتجمّع الطيور للراحة في أماكن مناسبة وبأعداد كبيرة، فيتمّ إزعاجها ليلاً لذا تهرب وتصطدم بالأشجار والأعمدة والمباني وبعضها ببعض وتقع ميتة بأعداد كبيرة. وهذا ما يحصل كذلك في النهار عندما تتعرّض إلى إزعاج أو تخويف أعداد كبيرة منها، فتصطدم بعضها ببعض نتيجة الهلع الذي يصيبها ويفقدها صوابها وتركيزها. ولا يكفي الطيور ذلك، لأنّ الصيادين يتربّصون بها في أماكن مبيتها ويطلقون عليها نيران بنادقهم بلا هوادة ولا رحمة وتنتهي العملية بمجازر كبيرة.
وتتكرّر المآسي نفسها في فصل العودة شمالاً إلى أماكن التفريخ في الربيع. لكن، سواء أكانت هذه الطيور مهاجرة أم مستوطنة لا تبرح مكانها، فإنّها تتعرّض إلى تسمم جماعي بمبيدات الحشرات ومبيدات القوارض التي يحظر استخدامها نظراً إلى خطورتها الشديدة، علماً أنّ ثمّة مبيدات ذات تأثير أقلّ على الطيور لا يستخدمها المزارع بسبب ارتفاع ثمنها. وقد تصاب الطيور بالطفيليات الداخلية كالديدان والخارجية كالقمل الذي يأكل الريش والبرغوث والقرّاد اللذين يضعفان الجسم، فيفقد الطائر قدرته على الطيران شيئاً فشيئاً إلى أن يلتهمه حيوان مفترس بسهولة أو يموت في مخبأ ما. كلّ ما سبق يبيّن أنّ ملايين الطيور قد تموت من دون أن نشاهدها أو نعرف عنها شيئاً، وعلى الإنسان أن يوفّر لما تبقّى منها الأمان كي يعوّضها قليلاً عن الخسائر التي تصيبها بالأرواح من جرّاء منشآته المدمّرة.
(متخصص في علم الطيور البرية)