فقد ثلاثة من أطفال عائلة أبوبكر والدهم ووالدتهم في مجزرة إسرائيلية جرت بحي الشجاعية شرقي مدينة غزة، حيث استهدف القصف المربع السكني بالكامل، في الثاني من ديسمبر/كانون الأول الماضي، ونجا الأطفال الثلاثة بأعجوبة بعد أن تمكنت طواقم الدفاع المدني بمساعدة الأهالي من إخراجهم من تحت الأنقاض، حيث كانوا يحتضنون بعضهم البعض ويبكون لعدة ساعات.
يعيش الأطفال الأيتام إسلام (13 سنة) وبراء (8 سنوات) وآلاء (6 سنوات) في حالة صدمة، ويعانون من أعراض نفسية من جراء البقاء تحت أنقاض المبنى المكون من أربعة طوابق، والذي دمره قصف الاحتلال تماماً، وقد نزحوا إلى أحد المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، بالقرب من مخيم الشابورة في مخيم رفح الكبير بمدينة رفح، حيث تقوم عمتهم ياسمين أبوبكر (35 سنة) برعايتهم مع والدتها المسنة، في ظل صعوبات معيشية متفاقمة، كونهم بلا مصدر دخل، ويعتمدون كلياً على المساعدات الإنسانية اليومية المقدمة من وكالة أونروا.
تقول ياسمين لـ"العربي الجديد": "يدخل أبناء شقيقي الشهيد الشهر الرابع على التوالي وهم من دون مصدر دخل ثابت، وقد أصبحوا من دون سند أو معيل. غياب الأب والأم لا يمكن تعويضه، فهما يمثلان الأمان والاطمئنان للأطفال، وأطفال أخي مشوشون، وأحياناً لا يستطيعون تناول الطعام، ويعانون من أعراض الخوف والقلق المستمر، والتي تتزايد كلما سمعوا أخباراً حول اجتياح إسرائيلي محتمل لمدينة رفح".
تضيف أنه "لا توجد مساعدات مخصصة للأطفال الأيتام رغم أنها باتت مهمة، وقد بحثتُ عن جمعيات أو مؤسسات متخصصة ولم أجد. كلنا نبحث عن المساعدة، لكن أوضاع الأيتام الصغار أصعب، وهم يتلقون بعض الدعم النفسي من منشطين يقومون بمشاركتهم بعض الألعاب والأنشطة فقط. لقد دُمر منزلهم، وهم لا يعرفون شيئاً عن مستقبلهم، وأنا أيضاً دُمر منزل والدي الذي كنت أعيش فيه مع والدتي المسنة، وعليه لا يمكن تخيّل حياة بهذه الصورة، وكل يوم تقريباً أستيقظ على بكاء أحد أبناء شقيقي الشهيد".
وتحول آلاف الأطفال في قطاع غزة إلى أيتام بعد فقدان ذويهم، سواء كشهداء مسجلين، أو من تم تسجيلهم في قائمة تضم أكثر من 7 آلاف مفقود منذ بداية العدوان، وكثير من هؤلاء شهداء لم يتم استخراج جثامينهم من تحت الأنقاض، وآخرون معتقلون.
في بداية فبراير/شباط الماضي، أصدر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، تقريراً كشف فيه عن وجود قرابة 17 ألف طفل يعيشون بدون أحد والديهم أو كليهما بسبب الاستشهاد أو الاعتقال. وفي مطلع مارس/آذار الحالي، أكد مدير المكتب الإعلامي الحكومي، إسماعيل الثوابتة، أن عدد الأيتام بسبب العدوان الإسرائيلي في القطاع يقدّر بنحو 18 ألف طفل فلسطيني، مشيراً إلى أزمات مركبة حصلت لهؤلاء الأطفال بسبب اضطرارهم إلى النزوح، وافتقادهم إلى أي مصدر دخل، وكذلك عدم قدرتهم على تدبير شؤونهم، أو تأمين احتياجاتهم.
لا تتوفر في قطاع غزة مساعدات أو خدمات مخصصة للأطفال الأيتام
وبعد محاولة لحصر أعداد الأيتام في مناطق النزوح، قدم المكتب الإعلامي الحكومي توصيات للجهات القائمة على توزيع المساعدات بوضع الأطفال الذين فقدوا ذويهم ضمن الأولوية في إيصال المساعدات إليهم بشكل مستمر. يقول الثوابتة لـ"العربي الجديد": "فقد نحو 18 ألف طفل فلسطيني ذويهم منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، ودخلوا الشهر السادس على التوالي من رحلة المصير المجهول بدون أي دعم رسمي لهم، وبعضهم استشهد أو اعتقل أو فُقد والداه أو أحدهما". ويضيف أن "مستقبل أطفال غزة سيكون أكثر صعوبة في ظل أعداد الشهداء الكبيرة، والكثير منها غير مسجل بعد، وستظهر أرقام صادمة بعد أن ينتهي العدوان الإسرائيلي. حالياً تجاوز عدد الشهداء المسجلين 31 ألف شهيد، لكن هناك آلاف الشهداء غير المسجلين، وأعداد كبيرة من المصابين هم أولياء أمور أطفال ومسؤولون عن عائلات، وبعض هؤلاء سيتحولون إلى معوقين، ما يزيد من معاناة أطفالهم في المستقبل".
يتابع الثوابتة أن "الأطفال الأيتام أحد أبرز الفئات المهمشة حالياً، وهم بحاجة ماسة إلى دعم مادي ونفسي وإغاثي وطبي متواصل، لكن على أرض الواقع، تظل المساعدات التي تدخل إلى قطاع غزة شحيحة، ولا يوجد عمل مؤسسي يلبي حاجة أكثر من مليون و400 ألف نازح في مدينة رفح وحدها، وهؤلاء أكثر من نصفهم من الأطفال، بمن فيهم فئة الأيتام".
نزح الفلسطيني إسماعيل حرب (41 سنة) مع عائلته من مدينة غزة إلى مدينة خانيونس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وخلال نزوحه مجدداً داخل خانيونس هرباً من قصف طاول منطقة البلد في العاشر من يناير/كانون الثاني الماضي، استشهد تاركاً والدته الستينية فرحانة حرب وأطفاله الأربعة ووالدتهم المصابة بسرطان الدم.
تقول المسنة الفلسطينية إن أصعب المواقف التي واجهتها كانت حين أجبرت على المشي مسافة طويلة رفقة أحفادها الأربعة وأمهم بعد خمسة أيام من استشهاد ابنها، وتصف هذا اليوم بأنه كان يفوق قدرتها على التحمل، إذ كانت تعاني من آلام في أنحاء جسدها، فضلاً عن آلام قلبها الموجوع على فقدان ابنها الوحيد، والذي أنجبته مع خمس بنات، وكان سنداً لها في شيخوختها، ويدعمها في رحلة علاجها.
تضيف حرب لـ"العربي الجديد" أن "أحفادي الآن أيتام، ومكسورو الخاطر، وأول كسرة أصابت قلوبهم كانت تدمير غرفهم في منزلنا بحي تل الهوا، ثم تدمير ذكرياتهم في شوارع الحي الذي دمر بالكامل، لكن الضربة الكبرى كانت حين استشهد والدهم الذي كان يمثل الظهر والسند لنا جميعاً، والذي استشهد بينما كنا نقيم في منزل أحد أقاربنا في خانيونس، وبعدها نزحنا من جديد إلى مدينة رفح، وها نحن نقيم في خيمة".
على أرض الواقع، تظل أرقام الأطفال الأيتام تقديرية، فالجهات الرسمية لا تستطيع حصر الأرقام بدقة في ظل استمرار العدوان، فضلاً عن معوقات مثل فصل شمال القطاع عن الوسط والجنوب عبر الشارع الذي أنشأه جيش الاحتلال، ووجود مفقودين تحت الأنقاض يقارب عددهم 7 آلاف مواطن تم تسجيلهم بالفعل.
يُشار إلى وجود أطفال معتقلين مع ذويهم، لكن لا يمكن إحصاء الأرقام بدقة، إذ اعتقل الاحتلال الإسرائيلي ما لا يقل عن ثلاثة آلاف مواطن من غزة، سواء على الطرق والحواجز التي نصبها، أو أثناء موجات النزوح، أو خلال اقتحام مناطقهم أو المناطق التي نزحوا إليها، وتشير معلومات متداولة إلى استشهاد أعداد من المعتقلين تحت التعذيب في السجون الإسرائيلية، أو في المناطق التي تم تحويلها إلى ثكنات عسكرية في المناطق الشرقية والشمالية من قطاع غزة.
نزحت عائلة السِر من شرقي مدينة غزة إلى خيمة بالقرب من الحدود المصرية، بعد أن فقدت عائلها بشار السِر (39 سنة)، ويعتقد أفراد العائلة أنه من بين المعتقلين من حي الزيتون، نظراً لأن آخر الأخبار التي وصلتهم كانت تفيد بأنه جرى اعتقال العديد من الرجال في المنطقة التي كانوا يقيمون فيها داخل أحد الشوارع الفرعية في الحي المقابل لشارع صلاح الدين، بينما يعتقد آخرون أنه شهيد، وأن جثمانه لا يزال تحت الأنقاض.
تقيم زوجته هيام (37 سنة) مع أطفاله أسامة (15 سنة) وإياد (11 سنة) وورد (7 سنوات) وسندس (4 سنوات) في خيمة صغيرة، وقد أصيبت أثناء رحلة النزوح بكسر في الذراع اليسرى، ولا تزال تتلقى العلاج. وتقول لـ"العربي الجديد": "لا نعرف شيئاً عن مصير زوجي الذي قرر البقاء في الحي بسبب عدم قدرته على ترك والدته المسنة، ونعيش على أخبار متواردة، بعضها يؤكد أنه معتقل، وأخرى تؤكد أنه شهيد، وكلما سمعنا عن إفراج الاحتلال عن معتقلين، أسارع مع أشقائي للسؤال عنه، فربما يعرف أحد المفرج عنهم أي أخبار". تضيف: "قال البعض إنه استشهد، ويقول آخرون إنه كان من بين المعتقلين حين قام جيش الاحتلال باعتقال أعداد كبيرة من سكان الحي في نهاية العام الماضي، وقام بإجبارهم على خلع ملابسهم، والانتظار في الشارع، بينما سمح بمغادرة النساء والأطفال. أعيش في قلق متواصل لأنني لا أعرف إن كنت سأحمل صفة زوجة شهيد أو زوجة أسير، وهناك مهمة أخرى أصعب تتمثل في رعاية أطفالي، ولا أعرف كيف سأكون لهم أماً وأباً في ذات الوقت".