يبدو أن أوروبا المنقسمة حيال التعامل مع زيادة تدفق المهاجرين السريين، باتت أكثر ارتباكاً في البحث عن حلول فردية، بعد أن ارتفعت الأصوات التي تنتقد الاتفاقيات الأوروبية السابقة الخاصة بأوضاع اللاجئين.
وبين محاولات "محاربة مهربي البشر" وإبداء تضامن داخلي بين مجموعة دول الاتحاد الأوروبي، تستعيد بعض مناطق القارة العجوز مشاهد ما قبل ذهابها إلى "الحدود المفتوحة" بين دولها. وعلى خلفية الاختلافات المتزايدة، وارتفاع شعارات "وقف غزو المهاجرين"، الذي يرفعه يمين القارة المتشدد، تتكشف خيوط التشدد الأوروبي للتعامل مع تدفقات اللاجئين (الموصوفين بأنهم مهاجرون غير شرعيين).
وكان البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، قد دخل على خط السجال في نهاية الأسبوع الفائت، حين رفض في أثناء لقاء مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وعدد من الأساقفة في مرسيليا الساحلية، الأوصاف القاسية بحق الباحثين عن حياة ومستقبل من خلال الهجرة الخطيرة إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.
ورفض البابا بصورة خاصة وصف الهجرة بأنها "غزو"، كما روج لها منذ سنوات طويلة رئيس وزراء المجر القومي المحافظ، فيكتور أوربان، متبوعاً بساسة وأحزاب قومية متشددة تحاول الاستفادة من حالة الخوف من التدفق المتزايد إلى القارة لتحقيق بعض شعبية في الشارع.
وشدد البابا فرانسيس على أن "أولئك الذين يخاطرون بحياتهم في البحر لا يغزوننا"، مردفاً بأنّ على العكس من ذلك، "يجب إنقاذ الأشخاص الذين يتعرضون لخطر الغرق عندما يُتركون بين الأمواج".
وبحسب البابا، فذلك يعتبر "التزاماً من أجل الإنسانية، والتزاماً من أجل الحضارة"، محذراً من تحويل المتوسط إلى "بحر الموت" ("مار مورتوم").
وقتل على الأقل 28 ألف إنسان غرقاً في المتوسط منذ 2013.
وإذا كان "النصح الأخلاقي" المقدم من رأس الكنيسة في الفاتيكان يهدف إلى منع انحدار التحريض على اللاجئين إلى مستويات متطرفة، فإن بعض ساسة القارة باتوا يتخذون إجراءات تفتح أبواب التخويف أكثر، وعينهم على منافسة معسكر اليمين المتشدد لهم في الاستطلاعات.
غياب التضامن...خلاص فردي بجدران صد
قبل ذلك بأيام، أعلنتها برلين أيضاً صريحة عن وقف استقبال القادمين عبر إيطاليا، بينما استمرت الأخيرة لبعض السنوات في تجاوز اتفاقية دبلن التي تنص على إعادة طالب اللجوء إلى البلد الأوروبي الأول الذي وصل إليه، ما وسع الخلافات الأوروبية، وعزز الاتجاه المطالب بحلول متشددة وفردية لكل دولة.
ألمانيا اتخذت خطوة غير مسبوقة في إعادة تفعيل العمل بالحدود مع جارتها الشرقية بولندا
رغبة روما في أن يقوم الاتحاد الأوروبي بتوزيع آلاف طالبي اللجوء الواصلين إليها عبر البحر الأبيض المتوسط تصطدم بسياسات أوروبية متجهة نحو تشديد سياساتها والإجراءات الأمنية لخلق ما يشبه "جدران صد" تمنع وصول آلاف القادمين إلى القارة، براً وبحراً.
وفي هذا السياق، أعلنت السلطات الأمنية الألمانية، أمس الثلاثاء واليوم الأربعاء، تنظيم حملة أمنية بمشاركة 350 شرطياً فككت من خلالها "شبكات تهريب بشر"، باعتقال نحو 100 مشتبه فيهم بـ"تهريب مئات اللاجئين"، بمن فيهم السوريون.
أضف إلى ذلك، فإن ألمانيا اتخذت خطوة غير مسبوقة في إعادة تفعيل العمل بالحدود مع جارتها الشرقية بولندا، بعد أن شددت الإجراءات مع جمهورية التشيك، وجنوباً مع إيطاليا والنمسا. فيما تشدد باريس أيضاً، إلى جانب هولندا وبلجيكا، إجراءات مراقبة الحدود.
الاثنين الماضي، عبّرت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر عن فرض ضوابط ثابتة على الحدود مع بولندا والتشيك، بهدف "الحد من الهجرة غير النظامية"، مشيرة إلى أن التدابير الإضافية لمكافحة جرائم تهريب البشر تستهدف أيضاً توقيف هؤلاء الذين ينشطون أكثر من خلال حدود ألمانيا البرية، وذلك رغم معارضة حزب الخضر لهذه السياسات، التي ترجمت بالفعل من خلال الحملة الأمنية، أمس الثلاثاء واليوم الأربعاء.
خطوات أوروبية متشددة
الخطوات الأوروبية التي تشدد العودة إلى مراقبة حدودها البينية تعيد إلى الأذهان تلك السياسات التي انتهجها المجري فيكتور أوربان، ثم بلغاريا وكرواتيا، وغيرها، بتشييد جدران حدودية ضخمة، ارتبطت بانتهاكات بحق طالبي اللجوء وممارسة عنف وعمليات صد، وإبعاد قبل حتى دراسة طلبات اللجوء، وسرعان ما توسعت نحو دول البلطيق وبولندا، بحجة منع وصول اللاجئين عبر بيلاروسيا وروسيا، بعد أن فتح لهم الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو الأبواب واسعة للضغط على أوروبا من أجل عدم معاقبته في أزمة نتائج الانتخابات الرئاسية في 2020.
ويبدو الآن أن الانتقادات التي أثيرت في أوروبا، وبرلين على رأسها، أيام المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، بحق جدران الصد في وسط القارة وجنوبها (في ما كان يسمى مسار/طريق البلقان للجوء)، تتحول إلى سياسة أوروبية رسمية.
الخطوة الألمانية بتشديد حدودها مع بولندا والتشيك تأتي على خلفية الاعتقاد بأن "مسار البلقان" بات مستبدلا بمسارات أخرى
فمن دول البلطيق وإسكندنافيا، التي أعادت العمل أيضاً بالحدود بينها، السويد والدنمارك بشكل خاص منذ 2016، (وتواصل الدنمارك نصب حدودها البرية الوحيدة مع ألمانيا جنوباً)، مروراً بألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ووصولاً إلى بلغاريا، فإن القارة العجوز أصبحت تقبل تبريرات اليمين القومي المتشدد في المجر والتشيك وسلوفاكيا، بل حتى تطبيع صرخات اليمين المتشدد في شمال القارة وغربها عن ضرورة وقف الهجرة.
ومن الواضح أن الخطوة الألمانية بتشديد حدودها مع بولندا والتشيك تأتي على خلفية الاعتقاد بأن "مسار البلقان" بات مستبدلاً بمسارات أخرى، ومن بينها التوتر في علاقة برلين ووارسو على خلفية "فضيحة التأشيرات" التي يتهم فيها مسؤولون بولنديون بتسهيل منح تأشيرات شينغن لمئات آلاف الناس من أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا لقاء مبالغ مالية تراوح بين 4 و5 آلاف دولار أميركي، ليواصل أولئك الواصلون مسيرتهم باتجاه الغرب، وخصوصاً ألمانيا والسويد.
ووافقت جمهورية التشيك، الاثنين الماضي، على الإجراءات الألمانية، بعد لقاء جمع وزير داخليتها فيت راكوسان بالألمانية فيزر، وذلك بمنح الشرطة الألمانية الحق في تفحص أوراق الداخلين إليها "إلى جانب العديد من الإجراءات".
ومع أن وارسو ممتعضة من الموقفين الأوروبي والألماني، المطالبين بتوضيح تفاصيل فضيحة تأشيرات شينغن، إلا أنها لا تستطيع وقف الإجراءات الألمانية، التي باتت من بافاريا على حدود النمسا إلى الحدود الشرقية أكثر صرامة.
ومع أن الحدود المفتوحة هي السمة التي يتفاخر بها الاتحاد الأوروبي لتحقيق التكامل الاقتصادي، إلا أن الإجراءات المستجدة تكشف الصعوبات التي يعانيها الأوروبيون في التعاطي مع مسألة تدفق المزيد من الهجرة واللجوء.
فالإجراءات المتشددة في البحر الأبيض المتوسط ومنع سفن الإنقاذ غير الحكومية، ودعم جهود وكالة حراسة حدود أوروبا الخارجية (فرونتيكس)، واتفاقيات مع تونس وغيرها لردع قوارب الهجرة، تبدو في أغلبها غير مجدية لوقف التدفق، المتوسع أيضاً ليشمل مسارات برية من شرق القارة، من خلال استمرار عمليات تهريب عبر الغابات المحاذية لروسيا وبيلاروسيا.
وتشير برلين إلى أن الإجراءات الأخيرة على الحدود ستبقى "حتى تتمكن أوروبا من الاتفاق على اتفاقيات الهجرة والعودة إلى الوطن مع بلدان المنشأ في أسرع وقت ممكن"، بحسب ما صرحت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك، التي شددت على أن الإجراءات السريعة على الحدود الخارجية لأوروبا ستسرع في عمليات إعادة الناس إلى أوطانهم الأصلية، وهو الأمر عينه الذي ركز عليه المستشار الألماني أولاف شولتز لتبرير الإجراءات الجديدة، حين ذكر في أثناء جولة انتخابية في ولاية هيسن أن "المانيا ملتزمة حق اللجوء، لكن أعداد الوافدين مثيرة وكبيرة"، واعداً باتخاذ المزيد من الإجراءات للحد من "زيادة الأعداد الواصلة إلى ألمانيا بصورة كبيرة".
يذكر أن المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين في برلين سجل أكثر من 204 آلاف طلب لجوء بزيادة قدرها 77 بالمائة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، هذا إلى جانب وجود أكثر من مليون لاجئ من حرب أوكرانيا يحتاجون إلى الاستضافة والرعاية.