أودنسه الدنماركية... "وادي سيليكون اسكندنافيا" لخدمة المجتمع

09 ابريل 2022
أودنسه عاصمة التكنولوجيا في اسكندنافيا (العربي الجديد)
+ الخط -

يرتبط أحياناً اسم مدينة أودنسه جنوب وسط الدنمارك بضاحية فولسموسه التي تسكنها غالبية من المهاجرين، لكن هذه المدينة تسير بثبات نحو التحوّل إلى عاصمة التكنولوجيا في عموم دول اسكندنافيا، فهي لم تعد فقط مقصداً للسياح من الداخل والخارج، والذين يزورون متحف وبيت أديبها الشهير هانس كريستيان أندرسن، والمدينة القديمة التي تعكس معالم قرون سابقة عن حياة وعادات شعبها، وتشكل نقطة وصل بين شرق الدنمارك حيث العاصمة كوبنهاغن وغربها المتمثل في جزيرة غوتلاند، من خلال جسر ونفق "الحزام الكبير". لقد تحوّلت أودنسه، خصوصاً بفضل جامعتها، إلى ما يطلق عليه بعض الباحثين الشبان تحبباً "وادي سيليكون اسكندنافيا". 
تجذب أودنسه التي تحتضن تقنية الروبوتات والدرونز (الطائرات بلا طيار) في اسكندنافيا، الشباب الباحثين عن فرص مثالية لتقديم ابتكارات وإبداعات مشاريعهم، وآخرين قادمين من الخارج حيث يتابع بعضهم أبحاثهم في معهد التكنولوجيا بجامعتها. وليس غريباَ بالتالي لقاء أشخاص من أحفاد وأبناء المهاجرين المنخرطين في هذه العلوم، وآخرين من إيران وسنغافورة والصين ودول أوروبا ينشدون استكمال أبحاثهم. 
ويقول القائمون على بلديتها لـ"العربي الجديد" إن "تحوّل أودنسه إلى مدينة جذابة لاختراعات الروبوتات شجّع الاستثمارات المحلية والخارجية في القطاع. وتبرعت شركة ميرسك العملاقة للشحن قبل سنوات بنحو 100 مليون كرونه (14 مليون دولار) لأبحاث الروبوتات في أودنسه". 

خدمة المجتمع
وفيما تعتبر خدمة المجتمع في قطاعات مختلفة أحد أهداف صناعات الروبوتات في الدنمارك، وتحضير التوازن بين التكنولوجيا ومتطلبات عدم فقدان الناس وظائفهم، يرى المدير التجاري في شركة "كابرا روبوتيكس" لارس هيي هانسن، في حديثه لـ "العربي الجديد"، أن "التطور الحاصل في المجتمعات يحتم إيجاد سبل مبتكرة للمساعدة في تأدية مهمات حيوية لخدمة الناس". 
ويعتقد هانسن أنه "على عكس ما يشاع، تساهم الروبوتات التي تؤدي مهمات ذاتية، وبينها تنظيف شوارع المدن، في إيجاد مزيد من وظائف تطوير التقنيات، كما أنه يصعب تأمين يد عاملة لبعض الوظائف حالياً وفي المستقبل، وبينها عمال نظافة متخصصون في تنظيف المدن من أعقاب السجائر وأشياء أخرى تضرّ البيئة. لذا عمل المبتكرون في شركتنا على اختراع روبوتات مبرمجة للقيام بمهمات ذاتية بلا حاجة إلى تدخل بشري".
إلى ذلك ابتكرت شركة "كابرا" التي تتخذ من آرهوس (وسط غرب) روبوتات لرش الملح على الأرصفة أثناء مواسم هطول الثلوج، بدلاً من تنفيذ البلديات ذلك يدوياً في ظل نقص اليد العاملة في المجال. 

الصورة
أودنسه مقر 480 شركة روبوتات دنماركية (العربي الجديد)
أودنسه مقر 480 شركة روبوتات دنماركية (العربي الجديد)

وتحتضن أودنسه 480 شركة دنماركية في مجال الروبوتات. ويعرض المدير التنفيذي لشركة "بلو أوشين" للروبوتات في أودنسه، ياكوب مورتنسن، اختراعات لمساعدة قطاعات الصحة، باتت في الخدمة فعلياً. ويؤكد أن روبوتات الخدمات الصحية لا تسلب الموظفين عملهم "لأن التكنولوجيا في مجال التمريض أو الاستشفاء تساعد القطاعات في توفير الجهد والوقت من أجل التركيز أكثر على المرضى".  
وقدمت "بلو أوشين" لمستشفيات الدنمارك، خصوصاً أقسام إعادة التأهيل الجسدي ومساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة، روبوتات قادرة على توفير وتخفيف عمل الممرضين والأطباء، سواء على صعيد رفع المريض يدوياً وإعادة تأهيل مصابين بحوادث أو سكتات أدت إلى شلل. ويقول مورتنسن: "تشهد إنتاجاتنا من الروبوتات إقبالاً كبيراً لأن النتائج كانت جيدة، وحتى المريض نفسه يستطيع استخدام اختراعاتنا لتسريع العلاج الفيزيائي".
وقدمت الشركة عرضاً لروبوتات ابتكرتها تستخدم في تعقيم غرف العيادات والمستشفيات، وقد زاد الطلب عليها خلال جائحة كورونا، وأثبتت فاعليتها بنسبة 98 في المائة، مع عدم الحاجة إلى تعقيم إلا بعض الأسطح البسيطة يدوياً.
وقدمت "بلو أوشين" روبوتاً يسمح بتعامل عميل أو مدير شركة مع شركته عن بعد وكأنه بين الموظفين، إذ يتجول في المعمل أو الشركة بأقسامها المختلفة، وكأنه في المكان نفسه في وقت يتواجد على بعد آلاف الكيلومترات، ويتحكم بالروبوت عبر تطبيق. 

الصورة
معهد التكنولوجيا يستقطب باحثين من العالم (العربي الجديد)
معهد التكنولوجيا يستقطب باحثين من العالم (العربي الجديد)

احتضان الشباب 
ورغم أن بعض المهاجرين يشتكون من التمييز وظروف الحياة القاسية في ضاحية فولسموسه بمدينة أودنسه، ومن معاملة الضاحية باعتبارها "مجتمعاً موازياً"، يذكر القائمون على مجتمع الاختراعات والابتكارات في المدينة أن "أحداً لا يستطيع رفض انضمام من يملك رغبة ومؤهلات في الابتكار إلى عملية التطوير". 
وخلال جولة أجرتها "العربي الجديد" في فولسموسه، أكد الموجه التعليمي في الضاحية حمزة بيومي لـ"العربي الجديد" أن "شباناً وشابات من أصل فلسطيني ولبناني وتركي باتوا جزءاً بالفعل من معهد التكنولوجيا في جامعة أودنسه، كما يعملون مهندسين وأطباء، لكن المشكلة تتمثل في تركيز الإعلام على الظواهر السلبية أكثر من قصص النجاحات المحفزة".
ورحب مديرو شركات مختلفة تحدثت إليهم "العربي الجديد" بأي شخص، بغض النظر عن أصله، لمواكبة تطور أودنسه في مجال التكنولوجيا. 

وتؤكد المستشارة التقنية لجامعة التكنولوجيا أنيكا ليندبيرغ لـ"العربي الجديد" أن الجامعة تقدم معامل وورشاً متخصصة للاختبار والاختراع، وكل ما يحتاجه المخترعون وصولاً إلى تأمين استثمارات لأعمالهم من خلال "مجلس استثمار أودنسه". 
وقبل فترة، اهتمت شركة "ميرسك" تحديداً باختراع شاب دنماركي روبوتاً لفحص وتنظيف السفن تحت الماء، فموّلت اختبارات الروبوت ووضعه قيد التنفيذ في سبيل توفير أموال طائلة تمنحها لشركات توفر هذه الخدمات يدوياً. ويتوقع أن ينضم هذا الروبوت إلى أساطيل الشحن البحري لاستخدامه في اكتشاف أعطال وتنظيف محركات السفن خلال وجودها في البحر. 

الصورة
منصة مهمة لاختراعات الشباب (العربي الجديد)
منصة مهمة لاختراعات الشباب (العربي الجديد)

"الدرونز"
وإذا كان قطاع "الدرونز" (أو الطائرات بلا طيار) ارتبط بالجانب العسكري في الأساس، أو بهوايات التصوير الجوي، يتمسك القائمون على أودنسه بعدم تفويت فرصة جعل الدنمارك رائدة في هذا المجال حول العالم. وتقول عضو مجلس المدينة للاستثمار سانا إلين فانسدليف لـ"العربي الجديد" إن "زيادة الطلب على الحلول الآلية وتوسع نطاق الحاجة للروبوتات والدرونز يواكبان أيضاً سياسات التحوّل البيئي الأخضر. فالاختراعات تقتحم أيضاً العمل الآلي الزراعي الذي يهتم به الشبان الراغبون في الاستثمار الزراعي النظيف بيئياً". 
وباتت اختراعات "الدرونز" المتعددة الوظائف تقتحم الأسواق في أوروبا وأفريقيا، وحتى في بلدان عربية، وتشمل حالياً مساعدة رجال الإطفاء في إخماد حرائق الغابات التي زادت خلال السنوات الأخيرة حول العالم، وكذلك برمجيات تتعلق بقضايا الزراعة والصيد والبحث عن المياه والتنقيب عن الموارد. 

الصورة
ورش متخصصة للاختبار والاختراع (العربي الجديد)
ورش متخصصة للاختبار والاختراع (العربي الجديد)

ودفع تطور الحاجة إلى بيئة نظيفة دنماركيين إلى ابتكار آلة ثلاثية الأبعاد تبني منازل بـ 3 طبقات خلال 3 أيام كحد أقصى عبر برمجيات هندسية تهتم بأدق التفاصيل المتعلقة بالتمديدات الصحية والكهربائية وغيرها، مع مراعاة معايير مقاومة الزلازل، بحسب ما ذكره مدير التسويق العالمي في الشركة المصنعة لهذه الآلة، فيليب كنودسن، لـ"العربي الجديد"، مضيفاً أن "تسويق الآلة وصل إلى تشيلي ودول معرضة لزلازل. وشركتنا تقدم لزبائنها خيار تجربة الآلة في كوبنهاغن من أجل تعليم مستخدميها قبل شحنها إلى دولهم. وتستخدم هذه الآلة حالياً للعمل في دولة عُمان، بعدما شيّدت مدارس صغيرة في قرى نائية لتوفير سير الأطفال مسافات طويلة من أجل الوصول إلى صفوفهم". 

وعموماً تسارع تطور مدينة أودنسه في طريق تحوّلها إلى عاصمة الروبوتات في الشمال خلال السنوات العشر الأخيرة. واستطاعت أن تقيم معرضها الثاني في نهاية مارس/ آذار الماضي، بعد الأول عام 2018، وذلك بمشاركة مئات من الشركات من أوروبا وأميركا الشمالية. 
ووضعت هذه القفزة الدنمارك في مقدمة دول أوروبا على صعيد الاستثمار في المجال. ونقلت أودنسه البلد إلى المرتبة السادسة عالمياً على مستوى ابتكار الروبوتات، وخلال السنوات الخمس الماضية، جرى ضخ 227 مليون يورو (248 مليون دولار) لمشاريع أبحاث قطاع الروبوتات في الدنمارك الذي يتوقع أن يبلغ حجم أعماله 5 مليارات يورو (5.45 مليارات دولار حتى 2025). 

المساهمون