لا أعلم ما هي الصيغة المناسبة لوصف الحالة الشعورية التي أمر بها الآن، كأب فلسطيني مُغترب لأول مرة من قطاع غزة، تاركاً زوجته وطفليه الصغيرين وسط مئات الصواريخ الإسرائيلية، بعدما دخل العدوان يومه الخامس متزامناً مع الذكرى الثانية لعدوان 2021 والذكرى الـ 75 للنكبة الفلسطينية.
لكن الشاب الفلسطيني علاء عبد الحفيظ (33 عاماً) والمقيم في الدوحة منذ 5 سنوات، استطاع ربما أن يجد صيغة مناسبة أكثر للتعبير عن حدة قهره وتوتره الشديد منذ بدء العدوان الإسرائيلي الذي راح ضحيته 33 شهيداً، إضافة إلى مئات الجرحى وخلّف دماراً كبيراً. علاء الذي يعمل مشرفاً إدارياً في شركة هندسية وهو المعيل الأول لعائلته، يقول لـ "العربي الجديد": "أن تكون بين أهلك وسط النار هو الحل الأنسب للهروب من التوتر والترقب مع كل صورة أو مشهد يخرج من غزة أو اتصال من عائلتك يخبرونك بمدى رعبهم من القذائف التي تنهال حولهم، مع دخول العدوان الإسرائيلي على غزة يومه الخامس".
أن تكون بين أهلك وسط النار هو الحل الأنسب للهروب من التوتر والترقب مع كل صورة أو مشهد يخرج من غزة أو اتصال من عائلتك يخبرونك بمدى رعبهم من القذائف
في منتصف الليلة الثالثة من العدوان سيطرت على الشاب عبد الحفيظ الذي تلقبه عائلته بـ "الدينمو" موجة عصبية شديدة لدرجة فيها فقد التحكم في أطرافه، وذلك بعد رسالة قصيرة من هاتف شقيقته آية تقول "قصفونا يخو.. ادعي لنا".
يتابع "عندما أرسلت شقيقتي الرسالة، بدأت أتصور أن الأبراج في مدينة حمد في خان يونس حيث يسكن جميع إخوتي سقطت على رؤوس ساكنيها، وأن الجيش بدأ ينفذ تكتيك الأحزمة النارية، في تلك الدقائق أعتقد أنني فقدت تركيزي من شدة التوتر وكل ما صدر عني لست مسؤولاً عنه".
تبين مع مرور الدقائق أن الرسالة التي أرسلتها آية تفيد أن الجيش الإسرائيلي استهدف الطابق الأخير من البناية التي تسكن فيها مع أطفالها الخمسة، وكان الهدف هو قائد الوحدة الصاروخية في سرايا القدس علي غالي الذي قتل مع شقيقه وشقيقته وابن شقيقته.
الحزام الناري
بخصوص الحزام الناري الذي يتخوف منه الشاب عبد الحفيظ، فهو التكتيك العسكري الذي استخدمه الجيش الإسرائيلي لأول مرة في عدوان مايو/ أيار 2021 الذي توافق ذكراه الثانية هذا العدوان الجاري، وهو ضرب مساحة لا تتعدى الكيلومتر مربع بمئات الصواريخ في أقل من ثلاث دقائق.
"هذا التكتيك العسكري الوحشي يُدخل المرء في حالة قريبة من الهوس المؤقت، عند حدوثها تحمل أطفالك وتلتصق بك زوجتك ويبدأ الجميع بالركض في زوايا المنزل، يتم التفكير في النزوح وفي ذات اللحظة يتعطل التفكير، وأخيراً تستسلم وتجلس وسط المنزل تتكور على أطفالك ونفسك منتظراً أن ينهال عليك السقف وينتهي هذا الرعب".
استخدمت إسرائيل هذا التكتيك في مناطق مختلفة في قطاع غزة، وأغلبها كان في شمال غزة، وهدفت من ذلك لعدة أشياء، منها عُرف وأغلبها ما زال مجهولاً، على رأسها خطة عسكرية عرفت بـ "خطة المترو" وهي ضرب العشرات من مقاتلي كتائب القسام؛ الذراع العسكري لحماس، لحظة نزولهم إلى الأنفاق، وتزامن ذلك مع تمرير مؤسسات إعلامية كبيرة خبراً وهمياً يفيد ببدء الجيش الإسرائيلي عملية برية في قطاع غزة؛ وفشلت الخطة.
والهدف الثاني من تلك الأحزمة النارية ضرب البنية التحتية لقطاع غزة والبنية التحتية الخاصة بالمقاومة الفلسطينية، والهدف الثالث، وليس الأخير، هو بث الرعب في صفوف الجبهة الداخلية في قطاع غزة، وهذا ما حصل فعلاً حين بدأت مئات العوائل بالنزوح من الأماكن القريبة من الأحزمة النارية.
أغلب الأحزمة النارية التي ضربت في عدوان 2021 كانت على أطراف الأحياء، باستثناء حزام ناري واحد في عمق مدينة غزة، كان ذلك في المجزرة التي ارتكبت في شارع الوحدة وراح ضحيتها قرابة 60 شخصاً، أغلبهم من النساء والأطفال، في غضون خمس دقائق.
ووفقاً للمدير الفني لوحدة الهندسة والمتفجرات في حكومة غزة محمد مقداد، فمن بين القنابل التي استخدمت في الأحزمة النارية القنبلة الموجهة الذكية "1 B GBU 31 V". وهي قنبلة موجهة بنظام GPS أميركية الصنع وتعتمد على قنبلة MK 84 أو قنبلة BLU 109؛ ووزنها الإجمالي 2036 باوند (925 كغم)، أما طولها فيبلغ 387 سم، والقطر 46 سم، أما اسم المادة المتفجرة فهو Tritonal، ووزنها 430 كغم تقريباً.
ولفت مقداد في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أن القنبلة الواحدة تستطيع إحداث حفرة في التربة بقطر 15 متراً تقريباً في عمق 9 متراً تقريباً، وقد تختلف اختلافاً بسيطاً حسب نوع التربة.
أما بخصوص القنبلة التي استخدمت في مجزرة شارع الوحدة، وتستخدم أيضاً بكثافة خلال العدوان الجاري على غزة، فإنها من العائلة نفسها، لكن إحداثياتها أكثر تطوراً وتسمى (B3V (GBU 31، ووزنها الإجمالي 2115 باوند (961 كغم)، والطول 377 سم، والقطر 37 سم، أما المادة المتفجرة فـ"Tritonal"، ووزنها 240 كغم تقريباً، بحسب المتحدث.
آخر عدوان عاشه الشاب عبد حفيظ مع عائلته كان تصعيد عام 2018، إذ لم يعش ظروف الأحزمة النارية، بل يتصوره وفق ما أخبرته عائلته.
"عقدة الناجي"
لكن الفلسطينية خلود النجار (37 عاماً) الأم لثلاثة أطفال، والمقيمة في الدوحة منذ ثمانية أعوام، قبل بدء عدوان 2021 بأسبوعين زارت عائلتها في قطاع غزة التي تقطن في مخيم جباليا شمال غزة، فقد كان لها نصيب الأسد من الأحزمة النارية.
النجار لها تجربة خاصة مع أحد الأحزمة النارية، علماً أن الجيش الإسرائيلي نفذ أحزمة نارية على مدار يومين في منطقة قريبة من مكان منزل عائلتها في منطقة تعرف بحي "بئر النعجة".
تقول: "ما زلت أعاني من الآثار النفسية نتيجة تلك الأيام التي عشتها أثناء زيارتي عائلتي، كلما تذكرت حالة الهلع التي انتابتني وأصابت أطفالي وعائلتي أدخل في موجة توتر شديدة".
بعد انتهاء العدوان بأسبوع، عادت النجار بأطفالها إلى الدوحة، وبقيت لمدة ليست بقصيرة تشعر بفقدان الشغف باستمرار الحياة: "قضيت قرابة شهرين فاقدة للقدرة على الأكل والشرب، شعرت بأنني فقدت لذة الحياة، حاولت أن أكسر هذا الشعور بالخروج إلى الأماكن السياحية الجميلة في الدوحة، ولكن يبدو أن الأمر كان يحتاج إلى وقت للخروج من هذه الأزمة النفسية التي سببتها لنا تلك الهجمات الإسرائيلية".
تُفسّر هذه الحالة النفسية، وفقاً للطبيب النفسي وخبير الأعصاب محمد أبو السبح، بـ "عقدة الناجي"، وقد أُطلق هذا المصطلح على الأشخاص الذين نجوا من الحرب العالمية الثانية.
يقول أبو السبح لـ"العربي الجديد": "هي تقريباً صدمة نفسية مؤقتة تظهر بعد الحرب، تتمحور حول فقدان الشغف في الحياة، إذ يشعر المصاب بموجة اكتئاب حادة تفقده المعاني التي حوله، ولا توجد مدة معينة للتخلص منها، بل هي حسب قدرة كل شخص النفسية والبيئة المحيطة به".
كل ما تتمناه الأم النجار أن لا يصيب عائلتها أي مكروه وأن ينتهي العدوان الجاري في أسرع وقت، "لا أعلم إن كانت عائلتي في غزة قد تحتمل أحزمة نارية أخرى، أهاتفهم في كل ساعة مرة ومرتين يخبروني أن معنوياتهم عالية، ولكن أنا أعلم جيداً كيف تصبح المعنويات بعد الأحزمة النارية فأنا بنت التجربة".
إن الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة وما يصاحبه من موجات تصعيد عسكري وحروب ليس عسكرياً وسياسياً فحسب، إنما هو حصار نفسي تم تجهيزه بتقنية عالية جداً، إذ اختار الإسرائيلي التوقيت المناسب كي ينفذ تكتيك الحزام الناري بعد 15 عاماً من الحصار المتشعب لضمان أن يحول المواطن في غزة المرهق سلفا من فصول الحصار إلى كومة من التوتر والاكتئاب الممتد، خاصة المواطن الفعال والذي لديه حضور اجتماعي.
ولعل ما يؤكد أن هذا الحصار مدروس على الصعيد النفسي، هو الوقوف على العقلية الإسرائيلية في التعامل مع الفلسطينيين، فمثلاً في الستينيات من القرن الماضي أرسلت إسرائيل مجموعة من العلماء، من بينهم علماء اجتماع، لدراسة حالة الأجيال الصاعدة في مخيمات غزة.
تنبّأ هؤلاء العلماء بأنه خلال 30 عاماً قد تحصل ثورة، وهذا ما حصل فعلاً في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات بما تعرف بـ "انتفاضة الحجارة"، أما الأمر الثاني فهو أن إسرائيل تدرس كم سعرة حرارية يحتاجها المواطن في غزة، وأمثلة كثيرة تدلل على أنّ قطاع غزة تحديداً يخضع لتجارب إسرائيلية على المستويات كافة.
حفل زفاف مُعلّق
أما المعلم الفلسطيني الشاب محمد أبو زيد (31 عاماً) المقيم في الدوحة ويُدرّس مادة العلوم في إحدى المدارس القطرية، فله حكاية خاصة، إذ كان ينتظر بفارغ الصبر انتهاء العام الدراسي المقرر في نهاية مايو/ أيار، لكي يعود إلى غزة ويقيم حفل زفافه على عروسته وابنة عمه ريم (27 عاماً).
العريس أبو زيد أتم تجهيزات فرحه بشكل كامل، ومن ضمن خططه استغلال الإجازة الصيفية المقررة من دائرة التعليم في قطر ليعود إلى قطاع غزة ويقيم حفل زفاف، إلا أن العدوان الإسرائيلي يبقي مخططات المُدرس في إتمام مراسم زواجه معلقاً.
يقول العريس الذي تعيش عائلته في مدينة دير البلح وتعرضت لضربات صاروخية متفرقة على مدار العدوان: "أنا الآن مرهون بالعدوان الإسرائيلي، حفل زفافي مقرر في بداية الشهر المقبل، فكرة أن أعود إلى غزة وأجد حماماً من الدم، يفقدنا جميعا الرغبة في الفرحة".
أبو زيد عقد قرانه على ريم قبل سبعة أشهر، ويبدو أنه بدأ يقرر فعلياً تأجيل حفل زفافه، إذ يكمل: "حتى لو انتهى العدوان خلال أيام، لم يعد لي رغبة في إقامة الحفل الذي كنت أخطط له، فمنازل جيارننا قد دمرت، كذلك احتراماً لدماء الشهداء، ما قد يضعني أمام خيارين إما أن أؤجل حفل الزفاف أو ألغي جميع المراسم وأتزوج بصمت".
ويرى المُدرس أن حكايته لا تعني شيئاً أمام مأساة الشاب الفلسطيني الذي قتلت إسرائيل عروسه دانيا عدس قبل موعد حفل الزفاف بشهرين وحولت ثوب فرحها الأبيض إلى كفن لها.
"أريد العودة"
الفلسطيني شعبان مقداد (71 عاماً)، والذي يعيش منذ 53 عاماً في الدوحة، قبل العدوان الجاري بيوم كان قد حجز تذكرة طيران للعودة إلى مسقط رأسه في حي النصر وسط مدينة غزة، أصرّ الرجل على العودة، إلا أن أبناءه رفضوا عودته إلى حين انتهاء العدوان.
في كل عدوان على غزة، أعيش القهر مضاعفاً، أموت في اللحظة مائة مرة، لقد سئمت من هذا الشعور طوال هذه السنوات، في الذكرى الـ 75 للنكبة الفلسطينية نكبتنا متجددة
يريد مُدرس الرياضيات المخضرم أن يختم حياته في الحي الذي ولد فيه قبل سبعة عقود، يقول :"في كل عدوان على غزة، أعيش القهر مضاعفاً، أموت في اللحظة مائة مرة، لقد سئمت من هذا الشعور طوال هذه السنوات، في الذكرى الـ 75 للنكبة الفلسطينية نكبتنا متجددة، ونكبتي كلاجئ من بلدة حمامة ومغترب مضاعفة".
ويرى مقداد أن مهمته كمدرس أجيال انتهت، ولم تعد أي قيمة للتواجد في الدوحة، "أريد أن أختم حياتي في المكان الذي ولدت فيه، لا أعلم كيف هو العيش تحت وقع الصواريخ الإسرائيلية، لم أجرب ذلك، لكن أنا متأكد أنه أقل ضرراً من العدوان النفسي الذي يُمارس علينا كمغتربين".
بالنسبة للفلسطيني، فإنّ السفر أو الهجرة من قطاع غزة، لا يعني النجاة من آلة الموت الإسرائيلية، فإلى جانب الذكريات المؤلمة التي تلاحقه واضطراباته النفسية التي اكتسبها بفعل سنوات الحصار وقد يتخلص منها مع مرور الوقت، فإن العدوان النفسي الذي يسيطر على المغترب نتيجة العدوان العسكري الإسرائيلي، الذي يستهدف العائلة والأصدقاء والأحباب والذكريات الجميلة، يبقى راسخًا.
في آخر اتصال لي مع زوجتي، أخبرتني أنها نجحت أخيرا في كتم خوفها ولم تعد تظهره أمام طفلينا خليل وصبا، كما نجحت أيضا في إيجاد صيغة مناسبة لسيل الأسئلة التي يطرحها الصغيران مع كل لحظة انفجار قد يقع قريبا من شقتي الواقعة غرب مخيم جباليا، وعلى رأس كل ساعة يسقط على الأرض الزراعية القريبة منا صاروخ أو صاروخان من الطائرات الحربية الإسرائيلية.