في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تزوّجت الفلسطينية نجوى أبو حمادة (47 عاماً) ابن عمها إياد (50 عاماً) الذي يعمل سائق أجرة.
بعد 6 سنوات من عدم الإنجاب، لم تيأس نجوى من الصبر والمحاولة، رغم أنها جرّبت كل أنواع العلاج بالأدوية وحتى الطرق الشعبية القديمة، لذلك قّرر الزوجان اتخاذ خطوة محاولة الإنجاب من طريق عملية زراعة.
بعد المحاولة الخامسة (كلفة العملية 7 آلاف دولار) تمت عملية حمل نجوى بنجاح، كان ذلك في مطلع يناير/كانون الثاني عام 2003.
في 23 سبتمبر/أيلول 2003، أنجبت نجوى مولوداً ذكراً اختارت له اسم خليل، تقول الأم: "لما حضنته أول مرة، لم أصدق أني أصبحت أُماً بعد 12 سنة من الانتظار، تلك اللحظة هي كل حياتي".
مرّت السنوات وكبر خليل، الذي استحوذ على قدر كبير من محبة عائلته وأقربائه وجيرانه، إذ كان يتمتع بكاريزما مدعومة بذكاء اجتماعي. تضيف الأم: "كان يضفي على البيت فرحة ونشاطاً وكأنه عشرة وليس واحداً، يتحدث ويضحك كثيراً، كنت أشعر أن جميع من يعرفه يشاركني في محبته".
في يوليو/تموز من العام المنصرم، قرّر والده تزويج ابنه الوحيد، وبدأ بخطوات فعلية لهذا القرار؛ يقول: "أوصيت الأقارب والجيران ليبحثوا معي عن العروسة (..)، قرار تزويجي له في سن مبكرة مردّه لأن تكثر ذريتنا ويكون عندنا أحفاد، ولم أجد أي ممانعة من ابني".
كابوس ونهاية
عصر يوم الجمعة الذي وافق 5 أغسطس/آب 2022، بينما الشاب خليل كان يرتب حفل ميلاد والده الـ49، باغتت طائرات حربية إسرائيلية عدة مناطق في قطاع غزة.
أدت الغارات إلى استشهاد 10 أشخاص، ومن بينهم قائد عسكري يدعى تيسير الجعبري، الذي تولى منصب قائد منطقة غزة في سرايا القدس خلفاً لبهاء أبو العطا الذي اغتالته إسرائيل في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، لتكون غزة على موعد تصعيد عسكري إسرائيلي جديد. وقد أطلق الجيش اسم العملية "الفجر الصادق"، فيما ردت المقاومة الفلسطينية بعد تلك الغارة برشقات صاروخية على مدن الغلاف بـ"وحدة الساحات".
كان خليل يسكن مع والديه في منزل صغير في حيّ يعرف بمحيط مسجد عماد عقل وسط مخيم جباليا شماليّ غزة، وهو الحيّ الذي تعرض لمجزرة إسرائيلية في عدوان شتاء 2008، إذ قتلت الطائرات الحربية خمس شقيقات من عائلة بعلوشة في لحظة واحدة.
بعد نصف ساعة من غروب شمس 6 أغسطس/آب 2022، أي اليوم الثاني للعدوان، كانت الأجواء حارة جداً، فيما التيار الكهربائي منقطع، ما دفع خليل إلى الخروج من المنزل بعدما تناول وجبة العشاء مع والده وأمه.
وما هي إلا دقائق حتى استشهد خليل، وتكمل الأم نجوى: "ما لحقت تصير دقيقتين من لحظة خروج خليل من البيت، صارت الضربة؛ كأنه زلزال في المكان (..)، من أول ما صارت الضربة، قلت خليل راح. ابني راح".
على الفور، خرجت نجوى من المنزل وسط الركام والغبار والظلام وحالة الهلع التي أصابت الحيّ، واتجهت إلى الركن المعروف الذي يجلس فيه خليل، ووجدته يأخذ وضعية السجود غارقاً بدمه.
استشهد فلذة الكبد، مات بجانب خليل صديقه و5 أطفال كانوا يجلسون على قارعة الطريق، وبهذا تكون المجزرة الثانية في ذات الحيّ. صحيح أن قائمة الشهداء مختلفة، وتوقيت القتل أيضاً مختلف، إلا أن الثابت في كل مرة هو القاتل.
تمسح الأم الثكلى دمعتها الجارفة على خدها وتكمل: "من يوم ما ولدته، كنت أشعر أن عمره قصير، بس ما توقعت بهذا التوقيت وبهذا الشكل".
انتهى ذلك العدوان في منتصف ليلة السابع من أغسطس، وأدت تلك الهجمة الإسرائيلية إلى استشهاد 46 فلسطينياً، من بينهم 15 طفلاً وأربع نساء، وأصيب قرابة 400 شخص أيضاً أغلبهم من الأطفال والنساء وكبار السن، ودمر تقريباً 1700 وحدة سكنية.
رغم العدد الكبير للشهداء، إلا أن حكاية خليل تصدرت المشهد وأخذت تفاعلاً كبيراً بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً بعد تداول النشطاء والصحافيين المشاهد التي التقطت لحظة وداع الأم لنجلها الوحيد الذي انجبته بعد 12 عاماً.
عودة وحلم
استمرت حكاية وصور خليل بالتداول بين رواد مواقع التواصل لعدة أشهر من الحادثة من شدة تعاطفهم مع الأم وتفاصيل القصة ككل.
في فبراير/شباط من العام الجاري، وجّه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني دعوة إلى نجوى وزوجها لزيارة العاصمة القطرية.
وتفاجأ الزوجان أبو حمادة، اللذان وصلا إلى الدوحة في 23 مارس/آذار من العام الجاري، بأن أمير قطر قدّم مكرمة لهما لإجراء عملية زراعة جنين أخرى على نفقة الدولة.
يقول أبو خليل: "نحن الآن في المرحلة الأخيرة من عملية الزراعة، خضعت زوجتي لعلاج مكثف لمدة أربعة أشهر تمهيداً لإجراء عملية الزراعة التي ستكون في ذات الشهر الذي فقدنا فيه خليل، أي في أغسطس/آب".
وستخضع نجوى للعملية في مستشفى حمد. فبجانب العلاج اللازم، خضعت لجلسات لتدعيم الجانب النفسي، تقول نجوى وهي تعمل أيضاً ممرضة: "أكد لي الأطباء أن عمري لن يكون عقبة في نجاح العملية. أهم شيء حالتي النفسية، وأن العامل النفسي هو الركن الأساسي لنجاحها".
وقدّمت الدولة القطرية كل المستلزمات المادية والمعنوية لعائلة أبو حمادة التي تسكن حالياً في شقة تقع في مدينة الغرافة. يختم أبو خليل شاكراً كل من ساهم في هذه الخطوة، قائلاً: "قدموا لنا منزلاً وتأميناً صحياً وكل ما يلزم لإنجاح العملية، أهم شيء أن تتمتع نجوى بصلابة نفسية في الأسابيع المقبلة".
تحتضن الأم قميص خليل، الذي اصطحبته معها من غزة: "ما راح يجي مثل خليل، متفائلة جداً بنجاح العملية (..) وراح أخبر ابني اللي جاي عن خليل وحركاته".