أكثر من نصف مليون تلميذ سوداني هجروا الكتب للهرب من الموت

13 يونيو 2023
بعض مدارس السودان تحولت إلى مراكز إيواء (فرانس برس)
+ الخط -

في 28 إبريل/ نيسان الماضي، صعدت سلمى إبراهيم (52 سنة) على متن سفينة نفذت رحلة إجلاء من السودان إلى السعودية، بعدما حصلت بشق النفس على تذكرتين لها ولابنها الذي كان يفترض أن يخضع لامتحانات الشهادة الثانوية في الخرطوم، تحدد موعدها في 10 يونيو/ حزيران الجاري، لكن اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع وسط الخرطوم في 15 إبريل الماضي جعل حُلم الفرار والنجاة يتقدم على التفكير بالامتحانات.
وكانت سلمى جاءت إلى السودان من مقر إقامة زوجها في السعودية، وأمضت ثمانية أشهر في الخرطوم برفقة ابنها الذي كان التحق بمدرسة الشيخ مصطفى الأمين الشهيرة في الخرطوم تمهيداً لأداء امتحانات الشهادة الثانوية. وقبل 55 يوماً فقط من موعد الامتحانات اندلعت الحرب، وتحوّل 650 ألف تلميذ وتلميذة من المواطنين والأجانب إلى لاجئين أو نازحين بعدما هربوا من مواقع الاشتباكات.
وكانت وزارة التربية والتعليم العام في السودان حددت في مارس/ آذار الماضي مواعيد امتحانات الشهادة الثانوية بين 27 مايو/ أيار الماضي و10 يونيو الجاري، ثم تراجعت عن إجرائها مع اندلاع الحرب. وقال وزير التربية والتعليم العام محمود سر الختم الحوري، في 22 مايو الماضي: "يهدف تأجيل الامتحانات إلى توفير مزيد من الوقت لتصحيح أوراق امتحانات الفصول الدراسية الصغيرة، وإعلان نتائج امتحاناتها، تمهيداً لإجراء امتحانات الشهادة الثانوية، وإكمال المقررات المدرسية، وإتاحة مزيد من الوقت لطلاب الشهادة الثانوية للاستعداد ومراجعة المواد الدراسية قبل الامتحانات النهائية".
ومهما كانت المبررات، أنهى اندلاع الحرب أحلام الطلاب بأداء الامتحانات، حتى ولو باستعدادات أقل بكثير مما أراده الوزير الحوري، الذي أكد لـ"العربي الجديد" أن "الوزارة ستحدد موعداً جديداً للامتحانات فور توقف الحرب، وعودة الاستقرار". 
ويرى الأستاذ في المرحلة الثانوية حمد ناصر، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنه "يصعب إجراء امتحانات هذا العام، لأن فصل الخريف يبدأ في يوليو/ تموز المقبل، ما يوقف الحركة في مناطق وولايات كثيرة بسبب وعورة الطُرقات، ويُعيق وصول فُرق توزيع ومراقبة وتأمين الامتحانات".
وتابع: "إذا توقفت الحرب الآن، فلن يستطيع التلاميذ إجراء الامتحانات في المستقبل القريب، فهم تشرّدوا مع أسرهم، ونزح بعضهم إلى أماكن جديدة داخل السودان، ولجأ آخرون إلى دول مجاورة، في حين عاد طلاب أجانب إلى بلدانهم. وهكذا أصبحت مسألة عودتهم بجاهزية كاملة لأداء الامتحانات أمراً في غاية الصعوبة، لأنهم تركوا كتبهم ومذكراتهم خلفهم، وهربوا من الموت. وعموماً، إذا استقر الوضع الأمني وعاد التلاميذ إلى السودان، فهم لن يذهبوا إلى مراكز الامتحانات، بل إلى قاعات الصفوف لأنهم لم يكملوا العام الدراسي لحظة نشوب الحرب".

الصورة
دفعة ثالثة من التلاميذ على أبواب الجامعات بلا امتحانات منذ عام 2018 (دافيد ديغنر/ Getty)
دفعة ثالثة من التلاميذ على أبواب الجامعات بلا امتحانات (ديفيد ديغنر/Getty)

ويتحدث ناصر عن عدم توفر معطيات أخرى لإجراء الامتحانات، ويقول: "لا يحتاج التلاميذ إلى إكمال المقرر الأكاديمي فقط، بل إلى الخضوع لعلاج وتأهيل نفسي كي يستعيدوا قدرتهم على أداء الامتحانات، فبعضهم شاهدوا من مناطق وجودهم فظائع الحرب، وبينها اندلاع الحرائق وانتشار الجثث في العراء".
وسبق أن تعطلت الدراسة مرات في السودان هذا العام بسبب سلسلة إضرابات نفذها المعلمون للاحتجاج على ضعف رواتبهم وقلة الحوافز والبدلات الممنوحة إليهم، والتي لم يحصلوا عليها أيضاً. وتجاوزت الفترة الزمنية التي أهدرت من العام الدراسي شهرين، ومن أجل تعويضها جرى تأجيل الامتحانات التي كانت تُجرى في مارس/ آذار من كل عام إلى مايو/ أيار، وذلك قبل تأجيلها إلى يونيو/ حزيران لإكمال المقررات الدراسية.
وبلغ عدد التلاميذ الذين أكملوا إجراءات التسجيل لأداء امتحانات للعام الدراسي الحالي 514 ألفاً. وقال الوزير الحوري: "سيظل باب التسجيل مفتوحاً حتى اليوم الأول من الامتحانات".
واللافت أن عدداً من التلاميذ المتحدرين من دول عربية يفضلون أداء امتحانات الشهادة السودانية، بسبب السمعة التي ما زالت تتمتع بها في بلدانهم، فحاملو الشهادة السودانية يحصلون على زيادة 12 في المائة على علاماتهم مقارنة بحاملي الشهادة الثانوية المصرية حين يتقدمون للدراسة في الجامعات المصرية. 

الصورة
أضاع التلاميذ عاماً دراسياً كاملاً (إريك لافورد/ Getty)
أضاع التلاميذ عاماً دراسياً كاملاً (إريك لافورد/Getty)

وفي الأردن، يفضل أولياء الأمور الشهادة السودانية على تلك المحلية، لأنها تسمح لأبنائهم بالدراسة في الجامعات العربية، علماً أن آلاف التلاميذ العرب، بينهم مصريون وأردنيون، يؤدون امتحانات الشهادة الثانوية في الخرطوم، بحسب إفادات حصلت عليها "العربي الجديد" من مسؤولين في مكتب امتحانات السودان التابع لوزارة التربية والتعليم.
ويقول ناصر إن قضية تلاميذ الشهادة السودانية هذا العام تحتاج إلى دراسة عميقة من أجل إيجاد حل لها. بقي أقل من ثلاثة أشهر على بداية العام الدراسي الجديد للتعليم العام، وهناك أكثر من نصف مليون تلميذ لم يجروا الامتحانات، وإذا جرت معالجة قضيتهم وأدوا هذه الامتحانات، فلن يستطيعوا إيجاد مقاعد في مؤسسات التعليم العالي، لأن زملاءهم الذين التحقوا بالجامعات العام السابق ما زالوا في السنة الأولى بسبب تكرار توقف الجامعات عن الدراسة بعد الاحتجاجات الشعبية التي تلت انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021"، وهو الانقلاب الذي نفذه الأعضاء العسكريون في الحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك، قبل أن تظهر خلافات وتنشب الحرب الحالية.
وفعلياً، تتراكم دفعات كثيرة في مؤسسات التعليم العالي، ويستحيل أن تستطيع الجامعات استيعاب دفعة جديدة العام المقبل بسبب إمكاناتها المحدودة، كما يقول ناصر الذي يشير أيضاً إلى أن الامتحانات التي وضعت قبل مدة قد تكون تعرضت للتلف في مقر وزارة التربية والتعليم، كما حدث لمستندات وملفات مهمة أحرقت في الجامعات ومباني المحاكم والسجون ومكاتب الأراضي والسجلات المدنية، أو هي محفوظة في أماكن آمنة.

وبالتزامن مع امتحانات الشهادة الثانوية، كان يتوقع أن تبدأ في إبريل/ نيسان الماضي امتحانات الشهادة الثانوية الأجنبية بمشاركة حوالي 90 ألف تلميذ وتلميذة، بحسب إحصاء غير رسمي. ويقول عثمان فضل الله، وهو والد تلميذ كان يفترض أن يؤدي امتحانات الشهادة الأجنبية من الخرطوم، لـ"العربي الجديد": "أضاع التلاميذ عاماً دراسياً كاملاً".
ويخبر أن أولياء أمور التلاميذ دفعوا رسوم العام الدراسي التي تجاوزت 5 آلاف دولار، إضافة إلى رسوم الامتحانات، ثم اندلعت الحرب بعد يوم واحد من بدايتها، ولا يعلم أحد في الوقت الراهن مصير ومستقبل ابنه الذي أصبح ربما في مهب الريح".
ويرى الوزير الحوري أن الامتحانات سوف تجرى فور توقف الحرب، لكن عدداً من أولياء الأمور وبعض المعلمين يرسمون صورة قاتمة لمستقبل التلاميذ، والجميع يأمل توقف الحرب أولاً، وحينها سيكون كل شيئاً قابلاً للإصلاح.
ولا يخفى تأثر منظومة التعليم في السودان بمجموعة مشاكل وعقبات في السنوات التي أعقبت إطاحة نظام الرئيس عمر البشير عام 2019، وفي مقدمها تدهور الحالة الاقتصادية التي انعكست سلباً على مختلف الأنشطة الحياتية، إلى جانب إفرازات الحرب الأهلية، والنزاعات القبلية والإثنية، وعدم استقرار الأوضاع السياسية، وغياب سياسات واضحة تجاه ضعف ميزانيات التعليم".
وفي حديث سابق لـ"العربي الجديد"، قال الخبير في مجال التعليم مبارك عبد الرحيم صباحي إن "أسباب تدهور الوضع التعليمي تشمل النقص الحاد في عدد المعلمين والمعلمات، وعزوف الرجال عن الانخراط في مهنة التعليم، وعدم توفر البيئة التربوية الصحيحة في معظم المدارس الحكومية، فضلاً عن عدم توفر البيئة المدرسية المناسبة، واكتظاظ الفصول، وضعف معينات الإدارات التربوية، وأجهزة التقويم والمتابعة، وعدم توفر البيانات والإحصاءات الصحيحة. وكل ذلك يتزامن مع الأعداد المتزايدة للمواليد، وعدم بناء مدارس جديدة لاستيعابهم، وإرهاق أولياء الأمور بالرسوم لتسيير أعمال المدارس. التعليم في السودان يسير نحو الخصخصة، ولا حل قريباً ما لم تستقر الأوضاع السياسية، وتعود هيبة الدولة، ويجرى توطين اللاجئين والنازحين".

المساهمون