يفوت الأهل أحياناً، أو كما يُطلق عليهم اليوم أهل جيل كورونا، أنّ أطفالهم يعيشون ظروفاً استثنائية. ويكادون يُساوون بينهم، هم الذين نمت شخصيّاتهم وخاضوا تجارب كثيرة، وبين أطفالهم الذي ما زالوا في طور النمو، ويعيشون داخل جدران لم تتبدّل أحياناً منذ أكثر من عام، مع استثناءات قليلة.
اليوم، وقد طالت مدّة الحجر، لم يعد الأطفال يفكّرون في احتمال العودة إلى المدرسة، وكأن ذلك لن يحدث. بات حلمهم أكبر بعدما قرأوا واقعهم بدقة أكثر. هم اليوم يبحثون عن الحرية.
نديم (10 سنوات)، يقول لوالدته، حين يقومان بنزهة معاً في السيارة، إنه يريدُ "شمّ الهواء". لا يكفيه اليوم المشي في الحي حيث يقطن، أو الذهاب إلى منزل جديه، أو ما شابه. التعايش مع الفيروس أو محاولة إيجاد البدائل هما توصيفان أكثر لطفاً لـ"السجن" الذي فرضه تفشي الوباء. واليوم، لا يتحدّث الأهل عن الخروج إلى الحياة مجدداً وقد اعتادوا حياتهم الجديدة رغم وصول اللقاح المضاد للفيروس إلى لبنان، ولا عن انتظار قرار وزارة التربية باحتمال إعادة فتح المدارس. يعرب نديم عن اشتياق لصديقه المفضّل مارك. يطلب من والدته أن تدعو ريان وأندريا إلى منزله. يومياً، يُحادث مارك من خلال تطبيق "زوم"، ويستفيدان من خاصيّة الفيديو ويلعبان "البلاي ستايشن" في وقت واحد. يُعرب عن كرهه للدراسة أونلاين وإن اعتادها، إلا أنه يغضب كلّما توقّف الانترنت لبعض الوقت. يُريحه فقط أنّ المدرسين باتوا أكثر لطفاً أونلاين. أما العقاب، فهو عدم قبول التلميذ في الصف أي إبقاؤه في "غرفة الانتظار" على "زوم"، ما يُثير لدى كثيرين الرغبة في الضحك أكثر من الشعور بالعزل أو الاستبعاد.
سارة (12 عاماً)، التي تملك هاتفاً وتقضي يومها على وسائل التواصل الاجتماعي تُحادث أصدقاءها بعد إنهاء الدراسة، تتحدّث عن شعورها بالوحدة. شعور لا يملأه كل هذا الوقت الذي تمضيه أونلاين. لاحظت والدتها ليال أنها باتت تفضّل البقاء في غرفتها طوال الوقت. وحين تجلس مع بقية أفراد العائلة، لا يكون لديها شيء لتشاركه إياهم. هذا ما تقوله والدتها. أما ابنها الأصغر أحمد (5 أعوام)، فغالباً ما يُعرب عن اشتياقه لكل النشاطات التي كان يقوم بها. يُخبرها أنه اشتاق إلى لعب كرة القدم والسباحة. لكن في الوقت نفسه، تُلاحظ أنه بات أكثر كسلاً. تسأله أن يرافقها إلى مكان ما فيرفض، حتى لو كان ذلك نزهة على الكورنيش البحري، لافتة إلى أن الأطفال اعتادوا على قلة الحركة والبقاء أمام الشاشات. أما ابنها رامي والذي بات في مرحلة المراهقة، فتلاحظ أنه فقد التواصل الاجتماعي. يقضي يومه في غرفته أمام الكومبيوتر، في وقت تسألها ابنتها: "ماذا نحكي؟ نتابع المسلسات وندرس ونلعب ألعاب الفيديو. ما من شيء نقوله". تقول الأم: "أطفالنا اشتاقوا إلى الحياة الطبيعية، إلا أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون حين يعودون إليها. سيكون هناك أزمة تواصل حقيقية".
حرمان من النمو
ما الذي يعيشه أطفالنا؟ وماذا ينتظرهم؟ تقول الأستاذة الجامعيّة في كليّة التربية في الجامعة اللبنانيّة ملاك خالد، إن فترة الحجر المنزلي الذي فرضه تفشي كورونا أدت إلى انقطاع أو توقّف النمو الجسدي واللغوي والعاطفي والذهني لدى الأطفال. فكلّما زادت المحفّزات للنمو، تطور الطفل. في الوقت الحالي، تشير إلى أن "أطفالنا محرومون من النمو الاجتماعي والحركي باعتبار أن حركتهم محدودة، خصوصاً القاطنين في شقق سكنية في المدن. أما النمو الذهني، فينحصر غالباً بما يشاهدونه على الشاشات، لافتة إلى أنهم يقضون وقتاً طويلاً أمامها وأحياناً من دون رقابة، وبالتالي قد يتعرضون لمضامين لا نعرفها سواء جنسية أو عنفية، الأمر الذي ينعكس على النمو الانفعالي، ما يعني صبراً أقل وعصبية أكثر وربما وقاحة كما يسميها الأهل، إلا أنه تعبير عن عدم قدرته على التحمل".
وتخشى خالد تعرّض الأطفال للعنف خلال فترة الحجر، خصوصاً أنّهم لا يعرفون التعبير إذا ما تعرّضوا للأذى من قبل مقدمي الرعاية الأولية، بل يعتبرونه شكلاً من أشكال الحب. هنا، تشير إلى أن كورونا أدى إلى خلل في الكثير من المعايير الذي كان الأهل يناضلون في سبيل تحقيقها مع أطفالهم.
أما على المدى البعيد، فتقول إنه ربّما يكون هناك تأثيرات نفسية لدى الأطفال الذين بقوا في المنزل مع أشخاص غاضبين، إذ أن للفيروس انعكاسات سلبية على الأهل أيضاً، علماً أن ما من دراسات بعد تتعلق بآثار الحجر على الأطفال. من جهة أخرى، تشير إلى أن صورة الأب والأم كبطلين خارقين بالنسبة للأطفال ربما تغيرت لدى بعض الأطفال، في حال أصيبوا بكورونا ورأى أولادهم أنهم مرضى، عدا عن رؤيتهم مرهقين ومتعبين نتيجة للظروف.
ماذا بعدما يخرج الأطفال إلى الحياة؟ تقول خالد إنه لدى الأطفال قدرة على مقاومة الظروف التي يمرون بها. "سنرى أن الأطفال مشتاقون إلى زملائهم مثلاً. والأساس هنا هو بيئة البيت. إلى أي مدى حافظ الأهل على تواصل أطفالهم مع أقاربهم أو أصدقائهم ولو أونلاين؟ كيف تعاملوا مع مخاوفهم خلال هذه الأزمة؟ وما إلى ذلك".
قلق
يعيش الكثير من الأهل قلقاً على أطفالهم. هؤلاء على ثقة بأن ما اختبره أطفالهم خلال أزمة كورونا سينعكس حتماً على صحتهم النفسية. والأهل الذين باتوا يعملون في البيت لا يعني أنهم يمضون وقتاً أطول مع أطفالهم. "من غير الشرّ، أنتظر اليوم الذي يعودون فيه إلى المدرسة" تقول إحدى الأمهات، التي ترى أن التواجد مع الأبناء طوال الوقت ليس صحياً بالنسبة لهم بالدرجة الأولى.
في هذا الإطار، توضح الأستاذة الجامعية والباحثة في علم الاجتماع هيفاء سلام، أنه "لا نعرف حتى الآن كيف سيؤثر العزل المنزلي على الأطفال، فهذا نوع من التجارب القاسية الذي ما زال قيد البحث". تضيف أن عدم قدرة الأطفال على اللعب مع زملائهم أثناء فترة الحجر قد يكون له آثار كثيرة، إذ تشير الدراسات إلى أن الأطفال الذين يذهبون إلى الروضة أكثر قدرة على التواصل مع الآخرين بالمقارنة مع الأطفال الذين لم يذهبوا. أهمية اللعب، بحسب سلام، أنه يسهّل التطور المعرفي، كما أن الكبار ليسوا رفاق لعب جيدين للغاية، بل إنهم مملون بالنسبة للأطفال وينفد صبرهم بسرعة ولديهم أشياء أخرى للقيام بها. والأمر أصعب على الأطفال الذين ليس لديهم أشقاء. هنا، تشدد على حاجة الأطفال إلى اختبار تجارب تفاعلية أساسية تؤدي إلى تطوير علاقات وثيقة خارج الأسرة.
تقول إحدى الأمهات التي بلغ عمر طفلها خمسة أعوام، والذي بالكاد ذهب إلى المدرسة بسبب إغلاقها في إطار إجراءات الوقاية، إنه زاد تعلّقها بابنها، وسيكون ابتعادها عنه مع عودة الحياة إلى طبيعتها وإعادة فتح المدارس صعباً. هذا التعلق يظهره طفلها أيضاً، والكثير من الأطفال الآخرين، ما يعني تأخر الانفصال عن الأم. في جلساتهم، يلاحظ الأهل أن أطفالهم باتوا أكثر غضباً، كثيري الشكوى، أكثر خمولاً وقلقاً، وقد استحوذت الشاشات على تفكيرهم. حتّى الألعاب الأخرى لم تعد ذات أهمية بالنسبة إليهم.
سلوك الأفراد
إلى ذلك، تقول الأستاذة الجامعية والمعالجة النفسية ماجدة حاتم، إن "كورونا غيّر نمط سلوك الفرد، الذي صار يعمل ويمارس الرياضة ويلتقي أصدقاءه ويدرس وما إلى ذلك في حيّزٍ مكاني محدّد، علماً أنه لا يمكن تلخيص كل الأدوار في مكان واحد، الأمر الذي جعل الأطفال يختبرون الصدمة. وزاد من صعوبة الأمر أن فترة السجن طالت. وحين يقول طفل إنه يريد أن يتنفس، فهذا يعني أنه يرغب في القيام بأدواره بعدما سلبه كورونا حريته".
من جهة أخرى، ترفض حاتم الأحكام المسبقة التي يطلقها كثيرون بحق الأطفال - جيل كورونا، وخصوصاً الأهل، مشيرة إلى أننا بذلك نضع مسافة بيننا وبين أطفالنا. "الطفل مرآتنا. وبالتالي علينا أن نؤمّن له بيئة مريحة". أما بعد الخروج من الحجر، فقد لا يكون بعض الأطفال قادرين على التكيّف بسرعة، بمعنى أنهم ربما يحتاجون إلى بعض الوقت لاستعادة ثقتهم في أنفسهم، وقد يستمر الشعور بالخمول قبل أن يستوعبوا أن الحياة عادت فعلاً. في المقابل، قد يندمج آخرون بسرعة، والأمر عائد إلى شخصية الطفل. أما عن الـتأثيرات المستقبلية، فتقول إن الأمر متعلق بكيف عاش الطفل الجائحة. على سبيل المثال، إذا كان قد اختبر أي نوع من أنواع العنف. بمعنى آخر، فإن السلوك الذي يسلب الطفل حقوقه قد يكون له تأثير.