في مدرسة غزة الجديدة "أ"، يلهو الأطفال في الساحة محاولين تناسي الأوقات الصعبة التي عايشوها خلال نزوحهم من منازلهم بفعل الحرب الإسرائيلية والقصف العنيف والمتواصل. لكنهم سرعان ما سمعوا صوت القصف، فاختبأ نصفهم في الفصول التي اتخذها الأهالي مسكناً لهم، فيما بقي النصف الآخر في الساحة ينظر إليهم ويقول للذين هربوا إنهم جبناء، والجيش الإسرائيلي جبان لأنه يقصف بالطائرات.
في مايو/ أيار عام 2021، نزحت الطفلة يارا التوم (13 عاماً) إلى المدرسة نفسها الواقعة في حي النصر غرب مدينة غزة، والتابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). واليوم، نزحت إليها مرة جديدة مع أسرتها، هرباً من منطقة التوام شمال قطاع غزة. اختارت نفس الفصل الذي نامت فيه قرابة أسبوع، حين كانت تبلغ من العمر 10 سنوات. وتعرب عن حزنها لأن عيد ميلادها صودف في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ولم تتمكن من الاحتفال به بسبب الحرب.
كانت التوم برفقة أشقائها الخمسة عندما نزحوا عام 2021. لكن هذا العام، نزحت برفقة أربعة أشقاء إذ إن شقيقها البكر حسام موجود في إحدى الجزر اليونانية ينتظر الرد على طلب اللجوء الذي تقدم به. وكان قد سافر من مصر إلى تركيا ثم عبر البحر إلى اليونان. تشعر يارا بالخوف لأن حسام كان يوفر لها الحماية ويساندها.
تقول التوم لـ "العربي الجديد": "كرهت المدرسة منذ عامين ونصف العام لأننا جئنا إلى هنا وبتنا فيها ليالي مرعبة. وعندما تنقطع الكهرباء، يزداد خوفنا. وهذه المرة، الوضع مرعب. أريد أن تمطر السماء كل يوم حتى لا تتمكن الطائرات الإسرائيلية من القصف، فأعود إلى المنزل. يجب إنشاء مدينة لحماية الأطفال من الموت، كما يحدث الآن في قطاع غزة حين تندلع الحروب".
أصبح الأطفال، وحتى الذين لم يتجاوزوا أربع سنوات من العمر، يعرفون القصف الإسرائيلي جيداً. وأصبحوا يرددون كلمات مثل "صاروخ" و"قذيفة" و"موت" و"شهيد". يبدو الأطفال مدركين لما يحدث معهم. وإذا ما أحدث أحدهم صوتاً مزعجاً، يرد آخر بأن الصوت يشبه القصف، كما تقول نادية أبو شمالة، وهي أم لأربعة أبناء نزحوا من بلدة جباليا. وتوضح أن أطفالها الأربعة جربوا النزوح مرتين في حياتهم، علماً أن أكبرهم يبلغ من العمر 13 عاماً وأصغرهم 6 أعوام. لم يتضرر منزلها خلال العدوان السابق، لكنه تضرر في العدوان الحالي، ما أجبرها على النزوح إلى إحدى المدارس الحكومية ثم إلى مدرسة تابعة للأونروا على اعتبار أنها أكثر أماناً.
وتوضح أبو شمالة في حديثها لـ "العربي الجديد": "أطفالنا يفهمون معنى الموت والاستشهاد والإصابات والجرحى ويعرفون أنواع الطائرات والصواريخ ليس لأنهم يريدون ذلك، بل لأن الاحتلال أجبرهم. نعيش هذا الواقع بشكل يومي ويصعب تحييد الأطفال. وحتى الأهل يهددون أطفالهم بالقصف".
وإلى مدرسة الشاطئ "ب" الواقعة على مقربة من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، نزح الطفل آدم عوض الله (11 عاماً) للمرة الأولى في حياته مع أسرته. يجد صعوبة في النوم ليلاً في الفصل من جراء الخوف. هي المرة الأولى التي يضطر فيها إلى النوم في المدرسة. اليوم الأول كان صعباً بالنسبة إليه، وعجز عن القيام بأمور كثيرة. لكن في اليوم التالي، بدأ يلعب مع بقية الأطفال.
عوض الله في الصف الخامس، ويدرك أن عدد الدول العربية هو 22، وتتشارك اللغة والدين والثقافة. ويسأل إذا كان ممكناً إنشاء جيش عربي لحماية سكان قطاع غزة، وخصوصاً أن معلمهم كان يتحدث دائماً عن "وطن عربي واحد". هذا الكلام يقابله رد من طفل آخر، يشير إلى أن "هذا محال لأن أميركا ستؤذيهم لو شكلوا جيشاً ضد إسرائيل".
يقول عوض الله لـ "العربي الجديد": "بعض البلاد في العالم لا تعيش حروباً ويمكن لأطفالها اللعب. لديهم ملاعب خضراء كثيرة وحدائق ويرتدون ملابس جميلة. لماذا نعيش هنا؟ ولماذا تكرهنا أميركا وإسرائيل؟ سمعت من خلال نشرات الأخبار أن أميركا تدعم أطفال إسرائيل ولا تدعمنا، والجيش الإسرائيلي يقتل أطفالاً كثيرين. لماذا لا يؤسس العالم جيشاً لحماية أطفال العالم في الحرب؟"
حال عوض الله يشبه حال عائلات وأطفال آخرين اضطروا إلى النزوح لأول مرة إلى المدارس، بسبب القصف العشوائي الذي طاول كل المناطق في القطاع.
نزوح وضحايا
مساء أول من أمس، أعلنت الأونروا أن أكثر من 220 ألف شخص في غزة لجأوا إلى 88 مدرسة تابعة لها. وقالت إن "88 مدرسة تابعة لنا في قطاع غزة تحولت إلى ملاجئ لأكثر من 220 ألف شخص"، مضيفة أن الأعداد تتزايد من استمرار الغارات الجوية الإسرائيلية. وكانت قد أعلنت أن نصف مليون شخص توقفوا عن تلقي المساعدات الغذائية الحيوية، من جراء اضطرارها لإغلاق جميع مراكز توزيع الغذاء البالغ عددها 14.
من جهتها، أعلنت الأمم المتحدة أمس، أنّ أكثر من 338 ألف شخص أُجبروا على الفرار من منازلهم في قطاع غزة الذي يتعرّض لقصف إسرائيلي عنيف. وقال مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة "أوشا"، في بيان، إنّ عدد النازحين في القطاع المكتظ بـ 2.3 مليون نسمة "ارتفع عصر الأربعاء بمقدار 75 ألف شخص إضافي" ليصل إلى 338.934" نازحاً.
بدورها، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية ارتفاع عدد الضحايا إلى 1417 من جراء القصف الإسرائيلي المتواصل، بينهم 447 طفلا و248 امرأة، بالإضافة إلى حوالي 6268 إصابة. وأكدت أن جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق عوائلنا الفلسطينية أدت إلى إبادة 22 عائلة فقدت 150 شهيداً من أفرادها. وقالت إن الانتهاكات الإسرائيلية بحق الطواقم الطبية أدت إلى استشهاد 6 من الكوادر الصحية وإصابة 15 آخرين بجراح مختلفة.
اضطرابات نفسية
إلى ذلك، تقول المتخصصة في العلاج النفسي للأطفال نرمين سلامة، إن علاج الأطفال الذين يعانون من صدمات نفسية من جراء الحروب الإسرائيلية هو الأصعب في الوقت الحالي. وتعمل حالياً مع فريق من المتخصصين النفسيين على وضع خطة لتأمين الدعم النفسي الجماعي للأطفال في مراكز الإيواء كخطة تدخل عاجلة. كما تشير إلى تنظيم أنشطة تساهم في إلهاء الأطفال منها الرسم والألعاب والتحديات وغيرها، وتحديد الأطفال الذين تتطلب حالتهم النفسية جلسات خاصة لمتابعتهم بعد انتهاء العدوان.
وتوضح في حديثها لـ "العربي الجديد": "من خلال ملاحظات أولية، غالبية الأطفال يعانون صدمات نفسية والقلق واضطراب التصرف، وهو مشكلةٌ سلوكية يخرق فيها الطفل العديد من القوانين والقواعد بشكل متكرر. والأخطر يكمن في الذين جربوا النزوح والحروب. هناك حاجة إلى تدخل نفسي عاجل".
وفي وقت سابق، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" أن مئات آلاف الأطفال في حاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية والحماية من جراء تصعيد الأعمال العدائية في غزة. وقبل بدء الحرب، أعلنت أن هناك 1.1 مليون طفل بحاجة إلى المساعدات الإنسانية في قطاع غزة والضفة الغربية، معربة عن قلقها إزاء قطع الكهرباء والمياه والغذاء عن سكان القطاع، وبالتالي حرمان الأطفال من الحصول على الخدمات الأساسية، الأمر الذي قد يعرّض حياتهم للخطر.
وذكرت منظمة "أنقذوا الطفولة" في دراسة أعدتها في نهاية العام الماضي أن 80 في المائة من أطفال قطاع غزة يعانون من ضائقة نفسية. وقالت في الدراسة التي عنونتها "محاصرون"، إن الصحة العقلية لأطفال القطاع آخذة في التدهور، مشددة على أنه منذ عام 2018، ارتفعت نسبة أطفال غزة الذين يعانون من الاكتئاب والحزن والخوف من 55 إلى 80 في المائة. ويعجز هؤلاء عن النوم والتركيز، ومنهم من يترقب اندلاع جولات جديدة من الحروب، موضحة أن الأطفال يشكلون ما يقرب من نصف سكان القطاع، كما أن 800 ألف شاب في القطاع "لم يجربوا الحياة من دون حصار".