منذ أكثر من عام وأربعة أشهر، تعيش أوروبا أجواء الحرب في أوكرانيا، وتهيمن أخبار الغزو الروسي على تفكير الناس في مستقبل السلام وازدهار المجتمعات. في المقابل، تستقطب غابات دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق الصغار من الذكور والإناث بدءاً من عمر 8 سنوات للتدرب على حمل السلاح، وكيفية إطلاق النار.
تعرّف اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة الطفل بأنه أي شخص يقل عمره عن 18 سنة، وتكافح الدول الأوروبية ضد عمالة الأطفال واستغلال الصغار في الحروب، خصوصاً في قارة أفريقيا وغيرها من مناطق الصراع، لكن الحروب تبدل كل الشعارات الحقوقية.
لا يعرف أطفال ألمانيا أو الدول الاسكندنافية وغيرها من مجتمعات شمال أوروبا وغربها أي تفاصيل عن الأسلحة، باستثناء تلك التي يرونها في أفلام الكرتون، وربما مشاهداتهم خلال ملاحقة الشرطة للصوص، وقد يفرحون إذا ما سمح لهم شرطي بلمس الأصفاد أو طرح أسئلة عن المسدسات، بينما يختلف المشهد تماماً في بعض دول أوروبا الشرقية.
في الغابات وعلى ضفاف بحيرات بعض الدول الحدودية مع روسيا، تتنامى الرغبة في مواجهة الأعداء الذين يتربصون بالوطن، ويخضع أطفال في الصف الثالث الابتدائي للتدريب العسكري واستخدام البنادق.
تشهد لاتفيا تجنيداً للصغار والشباب بصورة غير مسبوقة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، أي منذ بعيد تفكك الاتحاد السوفييتي، في ظل خوف من الجار الروسي يدفعها إلى تحصين نفسها وضمان الجهوزية لأي تطور عسكري محتمل، تحت مسمى الدفاع الوطني.
تعتمد البلاد على المتطوعين لإنشاء منظمات دفاع وطني تكون رديفاً لـ"الحرس الوطني"، وتتولى المشاركة في مهام مختلفة داخل البلاد، ويسمح الأهالي لأطفالهم بالمشاركة في معسكرات التدريب تحت شعارات "الوطنية" خوفاً من الخطر المحتمل من الجار الروسي.
خلال فصل الربيع، يتجمع الأطفال أسبوعياً بعد الدوام المدرسي في مختلف المناطق لاكتساب معلومات جديدة حول آليات الدفاع. ومع بدء موسم الصيف، تقام معسكرات حيث يقضي الأطفال والشباب أربعة أيام في الغابات بإشراف متخصصين، لتلقي تدريبات حول اللياقة البدنية والمعنوية لمواجهة التحديات المرتبطة بغياب اليقين بمستقبل سلمي وآمن.
وعلى بعد أكثر من ساعتين خارج العاصمة ريغا، تحتضن غابات شجر الزان الأطفال الذين دفع بهم الأهل للمشاركة في تحمل التحديات والتأديب ومعرفة كيفية التصرف في حال تعرض بلادهم للغزو. ويرى هؤلاء أنه ليس في الأمر مبالغة بدليل الغزو الروسي لأوكرانيا.
وقبل أشهر، تزايدت المعسكرات التي استهدفت الصغار واليافعين، ومنهم من كان عضواً في منظمة "جونساردزي" (الدفاع الوطني). ويمتد التدريب 180 يوماً، ويشمل ذلك التدريب الذي يتلقاه الكبار مع مراعاة قدراتهم كأطفال. ومنذ 1992، عام استقلال لاتفيا وبقية دول البلطيق عن الاتحاد السوفييتي بعد 60 عاماً من التبعية لموسكو، يبدو أن البلاد تأثرت بالتجربة الفنلندية وتأسيس "الشعب المقاتل" (منذ عام 1940 بعد حرب الشتاء الضروس مع السوفييت). لجأ قادتها إلى تهيئة الصغار والشبيبة للمشاركة مستقبلاً في الدفاع عن بلادهم وتمويلها رسمياً منذ 2014، على خلفية غزو روسيا وضمها شبه جزيرة القرم، الأمر الذي جعل روسيا تصف لاتفيا بأنها "بلد معاد للروس".
لكن بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، زاد الخوف من سياسات موسكو. وتفيد استطلاعات الرأي بتأييد 93 في المائة من اللاتفيين لأوكرانيا، ويذهب أكثر من 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لدعم كييف ضد روسيا.
يقول المسؤول عن منظمة جونساردزي، العقيد آيفيس مرباحس، لصحيفة "بيرلنغسكا" الدنماركية، إن الهدف من تدريب الصغار هو "تمكينهم من تعلم أساسيات الدفاع الوطني والتعرف إلى المهارات المفيدة في الجيش"، ويشير إلى أن ذلك يساهم في "جعل المجتمع قادراً على التعبئة بسرعة في حال حدوث أي تطور".
وتضم جونساردزي نحو 8 آلاف عضو (من عمر 8 حتى 18 سنة)، ويتعلم الصغار فهم دور كل فرد في المجتمع حيال واجباته وحقوقه في حالات الطوارئ، والمشاركة في تنفيذ القرارات المتخذة بحسب الظروف. ويبدأ الصغار تعلم الأنشطة الكشفية، منها إشعال النار واستخدام البوصلة وقراءة الخرائط وغيرها. ويتعلم الأكبر سناً منهم استخدام الأسلحة والتعامل مع النفايات الكيميائية وإنقاذ رفاقهم من حقول الألغام، بالإضافة إلى التكتيكات العسكرية وتاريخ الحرب والاتصالات اللاسلكية.
عملياً، فإن ما يجري في لاتفيا ينسحب على إستونيا وليتوانيا منذ 2017، وسط تصدع العلاقات بين الأقلية الناطقة بالروسية والغالبية، وتكثر المنظمات الشبابية التي تضم الآلاف ممن يتدربون في غابات البلدين، وبعضهم أصبح عضواً في القوات المسلحة لاحقاً.
وإذا كانت دول البلطيق وأوروبا الشرقية صارمة في هذا الإطار، وخصوصاً لاتفيا التي لا يتجاوز عدد سكانها المليوني نسمة، فإن الحال ليس أفضل في روسيا. وأنشأت منظمة الشباب الوطنية (جنارميجا)، التي تعمد بدورها إلى تجنيد الأطفال بأعمار ما بين 8 و18 عاماً.
ووفقاً لتقرير أعدته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية في ربيع 2022، بالإضافة إلى عدد من الأفلام الوثائقية التي تلت غزو أوكرانيا، باتت "الشباب الوطنية" تضم أكثر من مليون عضو. وحتى مع غياب منظمات الطلائع والشبيبة الشيوعية السوفييتية، بقيت السردية الروسية تقوم على تعزيز الانتماء إلى "الأم روسيا" وتمجيد الدفاع عنها في وجه الاجتياح النازي الألماني.
وبعيد ضم شبه جزيرة القرم، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2015 مرسوماً بإنشاء جيش الشباب، والذي يملك فروعاً في جميع أنحاء روسيا. وتدار "جنارميجا" الروسية عملياً من قبل منظمة "قدامى المحاربين DOSAAF"، وتتولى بدعم من وزارة الدفاع الروسية تدريب الصغار وزيادة رغبتهم في الانضمام إلى القوات المسلحة مستقبلاً وتعزيز الروح القومية، في ظل تراجع عدد الراغبين في الالتحاق بالخدمة العسكرية في روسيا منذ 2011. الأمر عينه ينسحب على أوكرانيا.