منذ تفشي وباء كورونا في مصر، كان الأطباء في البلاد، حالهم حال العديد من نظرائهم حول العالم، في الواجهة للتصدي له في المستشفيات، من دون أن تعمد الدولة إلى تقدير جهودهم سواء مادياً أو معنوياً، وذلك على الرغم من وفاة أكثر من 500 طبيب وطبيبة بالفيروس.
يوميّاً، بل على مدار الساعة، تتلقّى طبيبة الأمراض الصدرية المصرية "ع. م."، التي تعمل في مستشفى حمّيّات العباسية في القاهرة، الكثير من الرسائل من المواطنين عبر تطبيق "واتساب" تتضمن عشرات الصور المنجزة بتقنية التصوير المقطعي أو بتقنية الرنين المغناطيسي. تفتح الطبيبة الشابة تطبيق "واتساب" كلّما تسنّى لها رؤية هاتفها الخلوي، لترد على أسئلة المواطنين الذين يشتبهون بإصابتهم بفيروس كورونا الجديد. تعمل من دون إجازات في المستشفى، الذي يستقبل المصابين بالفيروس منذ ظهور أول حالة إصابة في البلاد منتصف فبراير/ شباط من العام 2020. دائماً ما كانت تردد: "اعزل نفسك في حال ظهور أيّ أعراض لكورونا. العدوى جماعية والوقاية هي الملاذ الوحيد" لجميع المشتبه بإصابتهم بالفيروس قبل إجراء فحص كورونا. "ع. م." حالها حال كثيرين في القطاع الطبي، ما زالت تقف في الصفوف الأمامية لمجابهة الوباء العالمي، رغم الإهمال الذي يتعرض له الأطباء في بلادها، عدا عن عدم تقديرهم. وتقول: "على الرغم من كلّ ما تتعرض له الطواقم الطبية في مصر، أنا فخورة بزملائي ومهنتي، وكلّ طبيب مصري يعمل في هذا التاريخ المفصلي من حياتنا. يسقط زملاء لنا يومياً. نودعهم ونكمل الطريق والعهد".
وتوفي 516 طبيباً وطبيبة نتيجة إصابتهم بفيروس كورونا، كان آخرهم الطبيب إيهاب سراج الدين، مدير عام خدمات نقل الدم القومية بوزارة الصحة المصرية، والذي كان مشرفاً على عمليات نقل بلازما المتعافين إلى المصابين بالفيروس. ويواجه الأطباء في مصر، كما في العديد من الدول، تحديات كثيرة، في ظلّ احتمال إصابتهم بالعدوى، وساعات العمل الطويلة والمرهقة، والتعرض للعنف أحياناً من المرضى أو ذويهم من دون أن تحميهم أيّ جهة.
ويأتي تفشي الوباء في وقت يواجه العاملون في القطاع الطبي ضعفاً في الأجور، ونظاماً صحياً متهالكاً، عدا عن النقص الكبير في عدد الأطباء، في ظل تزايد هجرة العاملين في القطاع الصحي، خصوصاً الأطباء، على مدى العقود الماضية، بحثاً عن ظروف عمل وفرص أفضل. وقدم الأطباء وغيرهم من العاملين في القطاع الصحي تضحيات كثيرة لمواجهة الوباء. وفي وقت سجلت نقابة أطباء مصر نحو 500 من أعضائها ضحايا للفيروس، كانت الولايات المتحدة، التي تحتل المركز الأول عالمياً لناحية أعداد الإصابات والوفيات بكورونا، قد سجلت وفاة 600 طبيب وطبيبة من بين 3600 من ضحايا الطواقم الطبية من مجموع وفيات القطاع الطبي في البلاد.
مع ذلك، فإنّ وفاة هذا العدد من الأطباء لم يستدعِ قلق النظام ممثلاً بوزيرة الصحة هالة زايد. وبدلاً من الاعتراف بالأزمة ومحاولة البحث عن حلول لها، قلّلت الأخيرة من أرقام الوفيات بين الأطباء بسبب طبيعة عملهم، بحجة أنّ من توفوا في مستشفيات العزل عددهم 115 طبيباً فقط. أما البقية، فتوفوا نتيجة ما أطلقت عليه عدوى مجتمعية، أي ليس خلال عملهم في المستشفيات. تصريح زايد ردت عليه منظمات مجتمع مدني مصرية قائلة إنّ "اقتصار وفيات الأطباء من جراء كورونا على مستشفيات العزل التابعة لوزارة الصحة فقط يستبعد الأطباء العاملين في مستشفيات أخرى، مثل مستشفيات الصدر والحمّيّات، التي تتعامل مباشرة مع المصابين بكورونا. أولئك الأطباء على تواصل مع المشتبه بإصابتهم بالفيروس. كما يُستبعد العاملون في بقية مستشفيات وزارة الصحة والوحدات والإدارات الصحية، والعاملون في القطاع الخاص، علماً أنّ الوزارة تتحمل مسؤولية الإشراف الفني والتنظيمي والوقائي".
تجدر الإشارة إلى أنّه مع وصول الوباء الآن إلى مرحلة العدوى المجتمعية، يصعب تحديد مصدر العدوى التي يتعرض لها الطبيب. وتعجز إجراءات الرصد والتقصي في هذه المرحلة عن تحديد سبب أو مصدر الإصابة. لذلك، يصعب في الوقت الحالي القول إنّ البعض أصيب خلال عمله أو خارج مكان العمل.
من جهة أخرى، فإنّ محاولة التقليل من أرقام الوفيات بين الأطباء، والتكتم الذي تتعامل به وزارة الصحة مع أعداد الإصابات والوفيات بين بقية أفراد الطواقم الطبية، ونقص البيانات وغياب الشفافية، لا يمكن أن تساعد في إيجاد حلول لهذه الأزمة، بل تؤدي إلى غياب الثقة، سواء من قبل الطواقم الطبية أو المواطنين، في الإجراءات المتخذة من قبل الدولة، فضلاً عن التأثير السلبي على معنويات الطواقم الطبية التي لا ترى حتى الآن تقديراً كافياً لعملها أو لتضحياتها.
وتُطالب منظّمات المجتمع المدني الحكومة بتقدير تضحيات الطواقم الطبية، ومعاملتهم نفس معاملة ضحايا الجيش والشرطة من الناحية المادية. وكانت نقابة الأطباء على رأس المطالبين بذلك من دون أن تلقى هذه المطالب أية استجابة حتى الآن. ويمنح صندوق ضحايا الجيش والشرطة مزايا غير موجودة في صندوق مخاطر المهن الطبية. على سبيل المثال، يمنح الأخير تعويضاً مادياً لمرة واحدة على سبيل المكافأة، على العكس من صندوق ضحايا الجيش والشرطة الذي يلزم الدولة براتب شهري، والذي يتمتع بموارد كبيرة في مقابل محدودية موارد صندوق مخاطر المهن الطبية. وتحايلت الحكومة المصرية على قرار رفضها ضمّ الأطباء إلى صندوق "شهداء الشرطة والجيش" والإبقاء على قيمة بدل العدوى للأطباء في مصر وهي 19 جنيهاً مصرياً (نحو دولار أميركي واحد). وبعد صراع قضائي بن نقابة الأطباء ووزارة الصحة، خصصت الحكومة بدلاً تحت عنوان "بدل مخاطر المهن الطبية" تم اعتماده بعد تفشي كورونا وارتفاع أعداد ضحايا الأطباء والعاملين الصحيين، نتيجة وجودهم في الصفوف الأمامية لمواجهة الوباء.
ونصّ قرار زيادة بدل مخاطر المهن الطبية على أنّه "بالإضافة إلى ما يتقاضاه أعضاء المهن الطبية المخاطبون بأحكام هذا القانون من بدلات أخرى مقررة عن مخاطر العدوى في أيّ تشريع آخر، يمنح أعضاء المهن الطبية المشار إليهم بدل مخاطر المهن الطبية شهرياً، وفقاً للفئات الآتية: 1225 جنيهاً (نحو 78 دولاراً) للأطباء البشريين، و875 جنيهاً (نحو 55 دولاراً) لأطباء الأسنان والصيادلة والأطباء البيطريين والمختصين في العلاج الطبيعي، و790 جنيهاً (نحو 50 دولاراً) للممرضين الجامعيين والمتخصصين في الكيمياء والفيزياء، و700 جنيه (نحو 44 دولاراً) للحاصلين على دبلومات فنية في التمريض". وبناءً عليه، أصبح راتب ضحايا الأطباء من فيروس كورونا 5600 جنيه مصري (نحو 360 دولاراً أميركياً) عام 2020، وارتفع إلى 6000 جنيه مصري (نحو 380 دولاراً أميركياً) عام 2021.
ويقدّر عدد الأطباء في المستشفيات الحكومية والجامعية والخاصة في مصر بنحو 82 ألف طبيب من جميع الاختصاصات، من أصل 213 ألف طبيب مسجل، بنسبة 38 في المائة من القوى الأساسية المرخصة بمزاولة المهنة، وفق دراسة أعدتها أمانات المستشفيات الجامعية، والمكتب الفني لوزارة الصحة المصرية ومجموعة من الخبراء والمتخصصين، حول أوضاع مهنة الطب البشري واحتياجات سوق العمل من الأطباء البشريين في مصر. وبحسب الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإنّه حتى عام 2018، كان يعمل 75 ألفاً و700 طبيب و143 ألفاً و200 ممرض في 691 مستشفى حكومياً في مصر، بينما يعمل 25 ألفاً و130 طبيباً و22 ألفاً و800 ممرض في 1157 مستشفى خاصاً. مع ذلك، تعاني مصر نقصاً شديداً في أعداد الأطباء لديها، في ظل هجرة الأطباء منذ سنوات.
وكان تقرير، صادر عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية، قد خلص إلى أنّ مصر شهدت هجرة واسعة للأطباء منذ تفشي جائحة كورونا منتصف فبراير/ شباط 2020. وأكد أنّ مصر تواجه موجة ثانية شديدة وحادة من الوباء، والعدوى فيها أوسع انتشاراً من الموجة الأولى، نتيجة غياب الإجراءات الاحترازية الكافية وهجرة الأطباء إلى الخارج، والتي زادت عقب الموجة الأولى، وقدر عددهم بنحو 7 آلاف طبيب، إلى جانب وفاة عدد كبير منهم نتيجة للفيروس.