أطباء غزة... عمل بلا أدوات وصيام بلا طعام
يعمل قرابة ألفين في الطواقم الطبية بمناطق شمالي قطاع غزة
طبيب: الطواقم الطبية كلها جائعة مثل جميع أهالي غزة
أجساد طواقم شمال غزة ضعيفة نتيجة عدم توفر طعام
عبر مكبر صوت ضعيف بالقرب من مجمع الشفاء الطبي، يسمع الموجودون من الطواقم الطبية، وكثير من النازحين، صوت أذان المغرب، فيتناولون ما توفر لهم من طعام كوجبة إفطار بعد يوم صيام رمضاني طويل، إذ ربما لا يتوفر طعام للسحور.
أفطر الطبيب العام حسام أبو خليل في المجمع الطبي على جبنة لا يعلم مصدرها، وطبق أرز صغير أعطاه إياه أحد أفراد الطواقم الطبية في قسم الاستقبال، ويؤكد أنه لم يتناول طعاماً جيداً منذ ثلاثة أشهر، لكنه يواصل العمل رغم كل ما عاشه من قصف وتدمير للأقسام واعتقالات للطواقم الطبية.
يقول أبو خليل: "في بعض الأيام، نحصل على الطعام من الناس الذين يعيشون في المستشفى، أو في محيطه، خصوصاً الخبز الذي يعده النازحون في خيامهم، وأحياناً أخرى نحصل على أطباق مختلفة، لكن غالبيتها تكون بلا ملامح، وأخرى من دون بهارات، وحتى من دون ملح".
وتعتبر محافظة شمال غزة الأكثر تضرراً من الجوع في القطاع، إذ وصلتها كميات قليلة من المساعدات الإنسانية منذ بداية العدوان، ولا تصلها إلا كميات محدودة من الطعام في حال وصول شاحنات المساعدات إلى مدينة غزة، ويجري ذلك بموافقة جيش الاحتلال، وبالتنسيق مع منظمات دولية، وحينها يتوافد الناس للحصول على قليل من المعلبات والطحين.
ويعمل قرابة ألفين في الطواقم الطبية بمناطق شمالي قطاع غزة، من بينهم نحو 200 طبيب، والبقية ممرضون وفنيون وإداريون، وهم يتوزّعون في الأغلب بين مجمع الشفاء الطبي ومستشفى كمال عدوان، فضلاً عن بضعة مراكز صحية صغيرة تغطي أنحاء محافظتي غزة والشمال اللتين تضمان أكثر من 500 ألف نسمة، بما فيها مخيم جباليا والبلدات الشمالية التي تعرضت للإبادة، وعاد بعض المواطنين إليها للبقاء بالقرب من منازلهم المدمرة.
يعمل قرابة ألفين في الطواقم الطبية بشمال غزة من بينهم نحو 200 طبيب
يقول الطبيب أبو خليل لـ"العربي الجديد": "يراجع الطبيب مئات الحالات في اليوم الواحد، وهو معرض لعدوى الأمراض التي يحملها المصابون والمرضى، ومهما كنا نحافظ على أنفسنا، فإننا لا نملك ما يحمينا، ونعمل بأدوات لا تتناسب مع عيادة صحية عادية في مكان بعيد عن مركز المدينة، ونحن مطالبون بالعمل تحت الضغط، ورغم الصيام، وقد أفتى بعض الشيوخ بجواز إفطار الطواقم الطبية في غزة، لأنهم يعملون في وسط الحرب، وفي ظل نقص الطعام والشراب، لكننا لن نشعر بالارتياح إذا أفطرنا". يضيف: "أحلم بالإفطار على تمر ولبن، أو صحن شوربة من أي نوع كما كنا نفعل في شهر رمضان الماضي عندما نكون في مناوبة عمل أثناء وقت الإفطار. الطواقم الطبية كلها جائعة مثل جميع الغزيين، ونحن معرضون لضغوط العمل، ونحاول مساندة المرضى والمصابين عبر الاختلاط بهم في كل وقت".
وأكد المتحدث باسم وزارة الصحة في قطاع غزة، أشرف القدرة، لـ"العربي الجديد"، أن قرابة 2000 كادر صحي في شمال قطاع غزة، يقضون شهر رمضان من دون وجبات إفطار أو سحور، وهم يمارسون عملهم على مدار الساعة بينما لا تتوفر لديهم المقومات الطبية، ولا المقومات الغذائية، ولا حتى مياه صالحة للشرب، إذ قصف الاحتلال الإسرائيلي خزانات المياه في المستشفيات، واستهدف مصادر المياه الجوفية.
وعجزت وزارة الصحة عن تأمين احتياجات الطواقم الطبية من الطعام عبر المؤسسات الدولية والإغاثية لتمكينهم من مواصلة العمل، ويشير القدرة إلى أن "جميع المطالبات لا تلقى رداً في ظل الرفض الإسرائيلي لضمان إدخال المعدات والمستلزمات الطبية لمستشفيات المنطقة الشمالية. أصبحت أجساد طواقم شمال غزة ضعيفة نتيجة عدم توفر طعام، وهم يعالجون سوء التغذية بينما هم أنفسهم يواجهونه، وتتزايد الأزمة في شهر رمضان".
يعمل الممرض محمد عيسى (36 سنة) في قسم العظام بالمبنى القديم من مجمع الشفاء الطبي لأكثر من 16 ساعة يومياً، وهو لا يتناول سوى وجبة واحدة صغيرة يومياً، ومنذ بدء شهر رمضان يحاول تقسيمها على وجبتي الإفطار والسحور، بينما يشرب مياهاً مالحة، ويبيت في المجمع مع أسرته بعد أن دمر القصف منزل والده في شمالي القطاع.
فقد عيسى الكثير من زملائه وأصدقائه من أفراد الطواقم الطبية وطواقم الإسعاف، ونجا عدة مرات من موت محقق خلال العدوان، إذ كان قبل الانتقال إلى مجمع الشفاء الطبي، يعمل في المستشفى الإندونيسي، وكان من ضمن من تعرضوا للتهديد والتحقيق خلال اقتحام جيش الاحتلال المستشفى.
يقول عيسى لـ"العربي الجديد": "لم أكن قادراً على مقاومة الجوع في اليوم الأول من رمضان، فخلال الأيام الأخيرة لم يتوفر لي سوى قليل من الطعام، وأنا أعمل ضمن الرعاية الأولية في القسم، ولا أستطيع التحرك بين الأقسام، أو النزول إلى ساحة المجمع التي تضم النازحين، لكني عازم على استكمال الصيام. أعمل في القطاع الصحي منذ عشر سنوات، وكنت أعمل خلال العدوان الأول في عام 2014، وعملت خلال مسيرات العودة في عام 2018، وفي عدوان عام 2021، وجاء شهر رمضان في كل تلك المرات، لكننا لم نتعرض لهذا الجوع الذي نعيشه حالياً".
يضيف: "الطواقم الطبية تعرضت لكل أنواع الأذى الجسدي والنفسي، ولضغوط كبيرة، فالمريض يتألم من الإصابة والجوع، ونحن نتألم من الجوع ومشاق العمل، وعادة لا تتوفر لدينا القفازات أو الكمامات الصحية، وكثيرون يصابون بالعدوى، أو يتعرضون للإغماء من شدة الإرهاق أو بسبب الجوع، وأحد الزملاء أغمي عليه في أول أيام رمضان".
وتواجه الطواقم الطبية مع دخول العدوان الشهر السادس صعوبات متفاقمة من أجل استمرار الخدمة الطبية، فجميع مستشفيات الشمال الكبرى اقتحمها جيش الاحتلال، واعتقل طواقم طبية من داخلها، وحقق مع أعداد كبيرة من الطواقم الطبية دون أن يعتقلهم، في حين يواصل اعتقال 269 من الأطباء والممرضين والإداريين، كما صادر أو دمر المعدات، وسرق جثامين بعض الشهداء.
في مستشفى كمال عدوان بمنطقة مشروع بيت لاهيا، تسير الأمور بصعوبة بالغة، وقد أصبح المستشفى الرئيسي في محافظة شمال القطاع بعد تدمير أجزاء من المستشفى الإندونيسي، وإخراجه من الخدمة، وهو المستشفى الوحيد المتاح لسكان بلدة ومخيم جباليا، وجميع القرى المحيطة، وتلك المناطق تعرضت لمجازر وجرائم إبادة جماعية، وجرى تدمير غالبية المباني فيها، وبسبب سوء التغذية، توفي عدد من الأطفال في المستشفى، وكذلك سيدة خمسينية كانت تعاني من أمراض مزمنة.
يعمل الطبيب أشرف المصري في مركز جباليا الطبي، وهو يعمل أيضاً في مركز طبي ثانٍ بمنطقة الصفطاوي، ويقول: "جميع الطواقم الطبية في المركزين تعاني من الجوع، وقد تناولت خبزاً من مخلوط الأعلاف في اليوم الأول من رمضان مع علبة من الحمص اشتريتها ممن يبيعون المساعدات التي تُلقى عبر الجو".
ويقول المصري لـ"العربي الجديد": "نعمل كجراحين في غرف العمليات، ونحن مطالبون بالتركيز، وببذل جهود كبيرة لإنقاذ أرواح العشرات يومياً، وليس من بيننا طبيب واحد يفكر في الإفطار، حتى لو استشهدنا على هذا الحال، لكن يظل الحصول على الغذاء أحد أحلامنا اليومية، كما أن الحلم الكبير هو توقف العدوان، بأي شكل، وبأي ثمن. أنا جائع مثل بقية الناس، وفقدت عشرات من أفراد عائلتي، من بينهم شقيقي وأبناؤه، وأبناء عمي كلهم شهداء".
يضيف: "في بعض الأحيان، يعجز أفراد الطواقم الطبية عن تحريك سرير عليه مريض أو مصاب، أو مساعدة المريض على الحركة، وكل ذلك بسبب شدة الجوع، وأحياناً أقرّر الحصول على قيلولة لمحاولة تناسي الشعور بالجوع، لكنني أستيقظ بعد وقت قليل، ويعود الشعور بالجوع الذي يجعلنا جميعاً مكتئبين، فنحن لا نملك الكثير من المعدات ولا الأدوات الطبية اللازمة، ولا حتى أدوات لحماية أنفسنا، ونعيش بسبب استمرار الجوع في عذاب".