منذ بدء حصار نظام بشار الأسد لمنطقة ريف حمص الشمالي في شتاء عام 2012، شكلت الأشجار الوسيلة الوحيدة لإنقاذ سكانها من برد فصل الشتاء، واستمر ذلك حتى بعد اتفاق التهجير في ظل صعوبة الحصول على وقود التدفئة الذي تتباهى حكومة النظام بتوفيره للمواطنين، عبر أسطوانة تتكرر كلّ عام.
في السنوات الأخيرة ضحى سكان بلدة الدار الكبيرة بالجزء الأكثر من أشجارهم للتغلب على صقيع فصول الشتاء التي تعاقبت بلا رحمة على المنطقة، من دون أن يملكوا أي خيار يبعدهم عن قطعها، فقهر البرد أكثر أهمية من التفكير بالحفاظ على شجرة زيتون أو سرو أو توت قد تنفعهم أيضاً.
يتحدث عثمان الخضر، من أهالي البلدة الذي عايش كل المراحل التي مرت بها المنطقة خلال العقد الماضي، لـ"العربي الجديد" عن اضطرار الأهالي إلى قطع الأشجار، ويقول: "لا يمكن الصمود في وجه برد تشرين تطبيقاً للمثل القائل برد تشرين أحدّ من طعن السكين. والحقيقة أن المازوت توافر في بداية الحصار، ثم بدأنا في قطع الأشجار بعد تشديده. في المرحلة الأولى قطعنا الأشجار غير المثمرة وتجنبنا أشجار الزيتون، لكننا لم نستطع تركها مع توالي الأعوام، فالتغلب على البرد أمر أكثر إلحاحاً من انتظار الزيتون، ما جعل قطع أي شجرة غير مهم بالنسبة لنا".
يضيف: "خلال سنوات الحصار التي مرت بها المنطقة، والتهجير الذي شهدته عام 2018، قطعنا كل الأشجار بلا تمييز، باستثناء تلك التي تتواجد في أحراش تقع قرب أماكن تمركز جيش الأسد، لأننا لم نستطع الوصول إليها، وهو ما يفعله الأهالي حالياً لأن لا مازوت أو أي شيء آخر لاستخدامه في التدفئة، كما أن الكهرباء بالكاد تتوافر. كما يقوم سكان المناطق الموالية للنظام، بقص الأحراش وبيعها، كون الأشجار في هذه المناطق لم تتأثر بشكل كبير".
وفي منطقة الحولة، استهلك السكان منذ بدء حصار قوات النظام لها إثر المجزرة المروعة التي ارتكبت فيها، مخزون أشجار الأحراش، والكينا والسرو والحور، وتلك المثمرة مثل الزيتون والفواكه.
ويقول عبد الرحمن (44 عاماً) لـ"العربي الجديد" إن "وقود التدفئة توفر لفترة، ثم بدأ يشح بحلول شتاء عام 2012، فلجأ الأهالي إلى قطع الأشجار التي استهلكوها كلها اليوم، في حين أبقوا على عدد قليل من أشجار الزيتون والجوز. لقد خاضوا تجربة صعبة اضطرتهم إلى قطع هذه الأشجار، لكنهم اعتادوا على الأمر مع مرور الوقت وأحرقوها للحصول على الدفء".
يضيف: "خلال سنوات الحصار التي انتهت فعلياً بسيطرة النظام على المنطقة عام 2018، قطع الأهالي أشجار الغابة القريبة من سد تلدو بالكامل رغم أنها كانت معمّرة وجميلة جداً، ومعظمها من الكينا تمتد من غرب السد إلى الشرق. لكن ما في اليد حيلة، فقطع الغابة أهون من مواجهة البرد والمرض والصقيع، علماً أن عمليات القطع خلال الحصار كانت محفوفة بالمخاطر لأن جيش الأسد كان يستهدف الأهالي الذين يعمدون إلى قطع الأشجار خلال الليل هرباً من رصاص القناصين".
في المقابل، يبدي محمد أبو المجد أسفه لخسارته كرماً كاملاً من أشجار الزيتون شرق مدينة تلدو، لكنه يؤكد لـ"العربي الجديد" أنه أرغم على قطع هذه الأشجار لمواجهة البرد الشديد. ويشير إلى أنه علم من أقاربه بعد فترة على مغادرته المنطقة أن أشجار الزيتون التي بدأت تثمر قطعت بالكامل، وذلك تحت جنح الليل، ويعلّق: "الأمر مزعج حقاً لأنني بذلت مجهوداً كبيراً مع أبنائي طوال أكثر من 6 سنوات لزرع هذه الأشجار والاعتناء بها، ثم علمت بعدها أنني لست الوحيد الذي فقد أشجاره بسبب حلول الشتاء في ظل عدم امتلاك الأهالي أي مواد للتدفئة".
ويعتبر أبو المجد أن ما يواسيه اليوم هو أن "الأشجار أنقذت أطفالاً من برد الشتاء، وأنه يمكن تعويضها باعتبارها نباتات تزرع وتنمو مجدداً. وأنا أعتبر أن قطع رب أسرة يعجز عن تدفئة أطفاله، الأشجار أمر محق، ويرتبط بحاجة حقيقية لا مفر من تلبيتها".
وفي بلدة قلعة الحصن، قطعت مديرية أوقاف حمص الأشجار المعمّرة في مقبرة البلدة، ما استفز أهلها الذين طالبوا بأن يكون حطب هذه الأشجار من حصتهم بحلول الشتاء.
وتوضح مصادر محلية أن مدينة تلدو خسرت نحو 75 في المائة من أشجار الزيتون المثمرة بسبب قطع الأهالي لها لسنوات. ومع قلة مصادر التدفئة، عاد سكان مناطق كثيرة في ريف حمص لطرق التدفئة البدائية وبينها صناعة "الجلة" من بقايا الزيتون كبديل عن الحطب الذي قلّ كثيراً في المنطقة التي تضم نحو 220 ألف نسمة، بحسب إحصاء رسمي أجري قبل عام 2004.