أمضى الأسير المقدسي المحرر رجائي الحداد نحو عشرين عاماً في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وكان خبر استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة على أيدي جنود الاحتلال عند أطراف مخيم جنين شمال الضفة الغربية في الحادي عشر من الشهر الجاري بمثابة فاجعة بالنسبة إليه.
باب العامود
تعود علاقة الحداد بالشهيدة إلى سنوات خلت. كانا يلتقيان في ساحة باب العامود ليتحدثا عن هموم الشعب الفلسطيني، وخصوصاً المقدسيين. ولتلك الساحة رمزيتها، إذ تعد ملتقى لمحبي المدينة المقدسة بكل تفاصيلها.
وعن البدايات المليئة بالذكريات، يقول الحداد لـ "العربي الجديد" إن علاقته بصديقته شيرين بدأت على مدرجات باب العامود في القدس. "كانت الشهيدة تعشق هذا المكان ومن فيه، إذ يأتي إليه الكثير من الناس ويشهد حركة لا تتوقف".
عاشقة القدس
يتابع رجائي: "كانت شيرين تتصل بي من حين إلى آخر، وتطلب مني أن نلتقي هناك لنتحدث عن القدس وسنوات السجن العشرين التي أبعدتني عن مدينتي. كانت تسأل كثيراً عن السنوات خلف القضبان، وفترة الاعتقال الطويلة، وكلما أخبرتها تبدي دهشة واستغراباً، وتردد عبارة واحدة وبطفولية: عنجد عشرين سنة؟ عنجد بصير هيك؟ وكأنها تريد أن تسمع مني المزيد وألا أتوقف عن الحديث عن السجن وأهواله وأحوال الأسرى فيه".
ويقول رجائي: "كانت شيرين تهتم بتفاصيل التفاصيل. كان واضحاً عمق عاطفتها لقضيتها وشعبها والأسرى على وجه التحديد. لم تكن مجرد صحافية تؤدي وظيفتها وتغطي ما يجري في القدس. لم تكن تستوعب هذا العدد من السنوات التي قضيتها خلف القضبان. الانتماء للقضية الفلسطينية والإنسانية كان جلياً في أحاديثها. وفي كل مرة كانت تعبر عن عشقها وحبها لباب العامود وحيويته ورمزيته المقدسية".
حارس النعش
فجع الحداد بخبر استشهاد شيرين، وكان لا بد أن يفي الشهيدة حقها ويؤدي الواجب في لحظات الوداع الأخيرة. حمل نعشها مع الشبان المقدسيين بما يليق بمكانة الشهيدة في نفوسهم. كانوا حريصين على صون كرامتها وهي تودع مدينتها التي ولدت فيها وأحبتها وتعلمت في مدارسها.
ويقول رجائي: "عزمنا أمرنا، نحن شباب القدس، على تكريم شهيدتنا بما يقام في العادة من مراسم الدفن والعزاء، وحمل الورود وتوزيع الحلوى (الملبّس). كانت لحظات من الحزن والفرح؛ حزن على فقدان شيرين وفرحة كونها شهيدة. وللشهيد مكانته وتقديره".
بيد أن اللحظات الأصعب بالنسبة للحداد كانت خلال الاعتداء على المشيعين، ومهاجمة جنود الاحتلال نعش الشهيدة الذي ارتقى عالياً على الأكتاف بينما كان المشيعون الشبان يتبادلون الأدوار لحمله حتى لا يسقط. "كان ذلك قراراً جماعياً: لن يسقط التابوت".
تفاصيل كثيرة يرويها الأسير المحرر وهو يتحدث عن الاتصالات التي جرت بمشاركة إدارة المستشفى الفرنسي سانت لويس وممثل الاتحاد الأوروبي وآخرين مع ضباط شرطة الاحتلال لإبعاد الجنود عن المستشفى الذي خرجت منه جنازة شيرين لكن من دون جدوى. وحدث ما حدث من اعتداء على الرغم من علم الاحتلال وجود عدد كبير من الصحافيين زملاء الشهيدة الذين حضروا للقيام بمهامهم وفي نفس الوقت أداء الواجب تجاه زميلتهم، من دون أن يكترث بما ستنقله الكاميرات إلى العالم.
ويقول رجائي: "بالنسبة لنا كشباب القدس، كان عهدنا جميعاً أن يظل التابوت مرفوعاً وألا يسقط أرضاً مهما كان الثمن. تحملنا الضربات العنيفة التي تلقيناها من جنود الاحتلال. وكلما تعب واحد منا اندفع مكانه آخر ليمنع السقوط، وبقي التابوت مرفوعاً حتى اللحظات الأخيرة التي انطلق بها جثمان الشهيدة إلى كنيسة البشارة للروم الكاثوليك في باب الخليل في البلدة القديمة من القدس، حيث صلى الجميع عليها وأقيم هناك قداس لراحة روحها ليواصل موكب التشييع سيره هاتفاً بحياتها وحياة فلسطين وشعبها". ويروي الحداد والعديد من المقدسيين أن الشهيدة كانت تمول وجبات إفطار من جيبها الخاص.