يُعَدّ الملف الاجتماعي في تونس معضلة أرهقت الحكومات المتعاقبة والسلطات منذ الثورة وكانت سبباً لاحتجاجات كثيرة، بسبب تركة التفاوت الجهوي بين المحافظات وشدّة الفقر والبطالة وتأزّم الصحة العامة وتراجع التعليم.
تواجه تونس ملفات اجتماعية حساسة عجزت الحكومات المتعاقبة عن حلها، وقد رفع الرئيس التونسي قيس سعيّد سقف الانتظارات الشعبية للتونسيين من خلال وعوده وتعهداته بتحسين معيشتهم، إلى جانب تعطيل الحكومة والبرلمان منذ شهر ونصف الشهر. وقد تزايدت مطالب التونسيين الاجتماعية أخيراً منذ انفراد سعيد بالسلطات في 25 يوليو/تموز الماضي، بعد تعليق عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي وعدد من الوزراء. وكان الوضع الاجتماعي المتأزّم أحد أبرز مرتكزات سعيّد ومبرّراته لإعلان الحالة الاستثنائية، وقد عدّ الاحتجاجات الاجتماعية في عدد من المحافظات وفي العاصمة صبيحة 25 يوليو خطراً داهماً على البلاد يتطلّب تدابير استثنائية. ويواصل سعيّد منذ إمساكه بالسلطة التنفيذية وتصريفه أعمال الحكومة تحريك الملفات الاجتماعية، منها ملف الصحة، بما في ذلك اللقاحات المضادة لكوفيد-19 والأدوية والأوكسجين، بالإضافة إلى انتقاده المنظومة التي أدّت، بحسب قوله، إلى إفقار الشعب وتجويعه، وإلى تفاقم البطالة واستشراء الغلاء وتردّي الوضع الصحي.
يقول الخبير في علم الاجتماع السياسي ممدوح عز الدين، لـ"العربي الجديد"، إنّ "المسألة الاجتماعية كانت حاضرة في وجدان الشعب التونسي وفي واقعهم اليومي وهاجسهم المتواصل منذ الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة"، مضيفاً أنّها كانت "القادح (المشعل) الأساسي في ثورة 2011، وهي التي جهّزت اللحظة الثورية. وقد رفعت الثورة سقف انتظارات التونسيين بشكل كبير، في مقابل إنجاز محدود جداً في خلال 10 أعوام، لكنّ ما تحقق من مطالب الثورة الأربعة الكبرى هو المسألة التأسيسية فقط، بالمصادقة على دستور 2014 بإجماع كبير، ليبقى الملف الاجتماعي الاقتصادي عالقاً من دون إنجاز". ويتابع عز الدين أنّ "سعيّد رفع كذلك من سقف انتظارات التونسيين الاجتماعية، وأصبح التحدي الاجتماعي أكبر أمامه"، مشدداً على أنّه اليوم "كمن يمسك الجمر بيدَيه وحده، فيما كانت المسؤولية موزّعة بين الحكومة والحزام البرلماني سابقاً". ويشدّد على أنّ "سعيّد يتحمّل المسؤولية كاملة بمفرده، إذ هو يمسك بالسلطة كاملة مع موازنة ضعيفة ومعطّلة وعجز في المالية العامة، مع توقّف الاستثمار وتردّد المؤسسات المانحة في انتظار اتضاح الرؤية في مقابل تواصل ارتفاع الأسعار". ويوضح عز الدين أنّ "سعيّد يقوم بمخاطرة كبيرة بانفراده بالسلطات، فالكرة اليوم بين يدَيه، ولا بدّ من أن يجد حلولاً اقتصادية عاجلة لأنّ الدولة على حافة الإفلاس، كما عبّر بنفسه"، متسائلاً "ما هي قدرة الرئيس على تحقيق المطالب الاجتماعية في خلال الأشهر المقبلة؟".
ويلفت عز الدين إلى أنّ "التونسيين كانوا منشغلين بالعطلة الصيفية، لكن مع حلول فصل الخريف والعودة إلى المدارس واستئناف الحياة اليومية والمهنية، سوف تكثر المصاريف. وفي خلال الأشهر الثلاثة المقبلة وحتى يناير/كانون الثاني، سوف تشهد تونس، بحسب التجربة، أشدّ الاحتجاجات الاجتماعية التي تتزامن عادة مع مناقشات موازنة العام المقبل (غير الموجودة أصلاً) في نهاية العام، كذلك لم يُكشف عن الموازنة التكميلية حتى اليوم وعن سبل تأمين مواردها، في ظلّ أزمة التمويل الخارجي والداخلي". ويؤكد أنّ "التحدي اليوم يتمثّل في غياب أفق واضح لحلول سياسية واقتصادية، وفي غياب وضع سياسي مستقرّ لا يمكن الحديث عن حلول اجتماعية"، مضيفاً أنّ "المشكلات الاجتماعية تتراكم بسرعة، الأمر الذي يزيد من استعجال تقديم خارطة طريق ورؤية واضحة للحلول الاقتصادية والاجتماعية".
بالنسبة إلى عز الدين، فإنّ "الوقوف إلى جانب الطبقات الفقيرة ومحاربة الفساد عبر إيجاد حلول للشباب العاطل من العمل وتحقيق العدالة ببن الجهات يُعدّان مطالب شرعية قامت من أجلها الثورة ونساندها جميعاً. لكنّه يُخشى أن تتحوّل إلى مجرّد شعارات ونحن لا نريد لها ذلك، بل نريدها أن تصير برامج واضحة قابلة للتطبيق يساهم فيها الجميع، المجتمع السياسي وكذلك المدني بكل أطيافهما، وبشكل تشاركي، لأنّه من غير الممكن تصوّر حلّ مشكلات المجتمع التونسي المتنوّع الذي قام بثورات عدّة وانتفاضات في التاريخ إلا بشكل تشاركي". ويرى عز الدين أنّ "حجم كرة الثلج يزداد تضخماً كلما مرّ الوقت، فيما نعيش اليوم ديكتاتورية المشاعر الحزينة كما يعرّفها (الفيلسوف الهولندي) سبينوزا. وما يحرّك التونسيين اليوم هو المشاعر والعاطفة الجيّاشة وكثير من الغضب واليأس... بالتالي توقّف التفكير بسبب الطابع الانفعالي". بالتالي، يؤكد عز الدين أنّه "بمرور الوقت سوف يقف الشعب وقفة تأمّل في ما أُنجز وتحقّق وسيطالب بحلّ. والحلّ لا يمكن أن يكون إلا بشكل جماعي، لأنّ المركب إذا غرقت سوف تغرق بالجميع من دون استثناء". ويكمل عز الدين أنّ "الطبقة الوسطى في تونس بصدد التآكل، في حين أنّها كانت تمثّل 80 في المائة مع دولة الرعاية الاجتماعية، ويشهد التعليم تراجعاً حاداً، ونسب البطالة في ارتفاع متواصل، خصوصاً بين حاملي الشهادات العليا الذين فقدوا الأمل في السلّم الاجتماعي، إلى جانب تراجع الصحة العامة، مع تقلّص الاستثمار ومشكلات المالية العامة وظهور الاقتصاد الموازي وتزايد الفساد والإحساس بالإحباط وعدم الرضا". ويؤكّد أنّ "الوضع اليوم ضبابي وغامض ولا يقين في الواقع السياسي الاجتماعي غير المستقرّ والهشّ، في غياب رؤية واضحة حول إمكانية تعيين الرئيس لحكومة في القريب العاجل". ويذكر عز الدين أنّ "ثمّة انقساماً بين السياسيين والفاعلين اجتماعياً، بين اعتبار الخطوة التي أقدم عليها الرئيس تنطوي على شجاعة لإصلاح الوضع المتعفّن والخروج من حالة الانسداد، وبين من يعدّه انقلاباً على الديمقراطية الناشئة وضرب المؤسسات واحتكار السلطات، وهو ما يفسّر صمت وانتظار عدد من النخب أو الجهات الفاعلة اجتماعياً إلى حين توضّح الرؤية".
يُعَدّ ملف البطالة من أكثر الملفات الحساسة التي تشغل التونسيين، والتي تنتظر حلولاً من الحكومة المقبلة، إذ سجّلت تونس، بحسب الإحصاء الرسمي الأخير في هذا السياق، بطالة بنسبة 17.9 في المائة، فيما أظهر المسح الأخير أنّ عدد العاطلين عن العمل بلغ 746.4 ألفاً من مجموع السكان النشطين. وتتركّز نسب البطالة العليا في الحزام الغربي للبلاد وصولاً إلى جنوبها، خصوصاً في المحافظات الحدودية مع الجزائر وليبيا.
ويخيّم شبح الفقر على تونس منذ أعوام، ويزداد الوضع قتامة مع غياب رؤية تخصّ انتشال نحو 1.7 مليون شخص يعيشون تحت خطّ الفقر، مع سبعة دنانير تونسية (نحو 2.5 دولار أميركي) في اليوم، وفقاً لمعايير البنك الدولي، وذلك من إجمالي عدد السكان البالغ نحو 12 مليون نسمة، منهم نحو نصف مليون يعيشون في فقر مدقع مع دخل يومي لا يتجاوز أربعة دنانير. ويقدّر المعهد الوطني للإحصاء في تونس نسبة الفقر بنحو 15.2 في المائة، في دراسة له بالتعاون مع البنك الدولي نُشرت في عام 2020، لكنّ النسب تخفي تفاوتاً حاداً، إذ تتجاوز 40 في المائة في المناطق الداخلية.
وبالإضافة إلى نسبة الفقراء التي جاوزت 30 في المائة من السكان، فإنّ تونس تعرف مشكلات اجتماعية متراكمة تخصّ فئات اجتماعية هشّة، من بينهم مليون شاب من دون رعاية ومتابعة اجتماعية، بحسب إحصاءات منظمات غير الحكومية، فيما آخرون منقطعون عن التعليم منذ عام 2011 بمعدّل 100 ألف منقطع في العام.
وتكابد تونس أزمة صحية خانقة كشفت عن اهتراء المنظومة الصحية التي كادت تتهاوى بسبب الضغط غير المسبوق على خلفية أزمة كورونا، الأمر الذي دفع المجتمع الدولي إلى التدخّل والمساعدة، من خلال إمدادات صحية باللقاحات المضادة لكوفيد-19 والأدوية والأوكسجين، وسط مطالب مجتمعية بإعلان البلاد دولة منكوبة في خلال ذروة الوباء.
وفي مواجهة الأزمة الاجتماعية وتفاقم الإحباط واليأس، يلجأ الشباب التونسي وكذلك عائلات تونسية بأسرها إلى الهجرة غير النظامية نحو أوروبا عبر إيطاليا، أملاً في تحسّن معيشتهم. وتضاعف عدد المهاجرين السريين الواصلين إلى سواحل إيطاليا بنحو خمس مرّات في عام 2020، مع 13 ألفاً، مقارنة بعام 2019، بحسب منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وقد كشفت المنظمة في آخر إحصاءاتها لعام 2021، أنّ نحو 6869 مهاجراً تونسياً بلغوا السواحل الإيطالية بطرق غير نظامية عبر البحر هذا العام، أكثر من نصفهم في خلال شهر يوليو/تموز الماضي، وهي أرقام تُعَدّ مفزعة جداً في هذه الفترة من العام مقارنة بالأعوام الماضية.
ويقول أستاذ علم الاجتماع حسن موري لـ"العربي الجديد" إنّ "الحكومة المقبلة إن وُجدت، تنتظرها حزمة من الملفات الاجتماعية الثقيلة على كلّ المستويات. فإلى جانب ملفات التعليم والصحة والبيئة والتشغيل، تبرز ملفات حساسة تتعلق بالأسرة بحدّ ذاتها لجهة احتياجاتها الاجتماعية في السكن، بعدما صار مستحيلاً الحصول على مسكن، وملفات أخرى تهمّ الفئات الهشة التي تختفي وراء الملفات الكبرى، من قبيل مشكلات الطفولة المهددة وذات الاحتياجات الخاصة وملف المرأة المنتهكة حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والمعنّفة والأمهات العازبات وغير ذلك. يُضاف إلى ذلك ملفات الأشخاص المعوّقين والمتسوّلين والمشرّدين وفاقدي السند ممّن لا تشملهم رعاية الدولة وإحاطتها، وملف البيئة المنتهكة وحقوق الأجيال المقبلة في بيئة سليمة ومعضلة المياه وندرتها".
ويشير موري إلى أنّ "الحكومة المقبلة تنتظرها مطالب اجتماعية متزايدة لتطبيق تعهّدات الرئيس سعيّد، بخفض أسعار المواد المعيشية والأدوية والمواد المدرسية ومواد البناء، وكذلك خفض الفائدة على القروض، وسط ضغط من البنوك المانحة لتطبيق إصلاحات مشروطة، كرفع الدعم عن المواد المعيشية والبترول، وتسريح عدد من العاملين في القطاع العام والحكومي، وخصخصة جزء من المؤسسات العامة لهيكلتها وإنقاذها من الإفلاس. كذلك سوف تواجه استئناف المنظمات الاجتماعية حراكها الاجتماعي ومفاوضاتها لزيادة الأجور التي يرفضها مموّلو موازنة الدولة". ويشدد موري على أنّ "سعيّد أو الحكومة التي سوف يعيّنها سيواجهان تحدي إصدار أوّل قرار مخالف للمزاج الشعبي تنفيذاً لشروط المانحين، بعدما فتح أبواب الحلم على مصراعَيه أمام شعب يائس متعطّش لتحقيق الرفاه الاجتماعي".