يعمل الأطباء والمتطوعون في منطقة الكارثة جنوبي تركيا في ظل إمكانات محدودة لا تقارن بالأعداد الكبيرة للمصابين من جراء الزلازل المدمرة، ويؤدي غياب كثير من المعدات والأجهزة إلى التركيز على حالات الإسعاف.
العمل بين الركام وفي خيام المشافي الميدانية في ظل غياب معدات أساسية هي ملخص يوميات عمل الأطباء في منطقة الكارثة التي أعلنت في جنوبي تركيا بعد سلسلة الزلازل التي ضربت الولايات التي أعلنتها الحكومة "منكوبة"، وخلفت عشرات آلاف الجرحى، خاصة في الأيام الأولى قبل إعادة تأسيس النظام الصحي مجدداً.
هرع الكثير من الأطباء والمسعفين والممرضين إلى المنطقة من أجل المساهمة في الأعمال الإغاثية، خاصة في الأيام الأولى التي شهدت إنقاذ أعداد كبيرة من العالقين تحت الأنقاض، وتوافد آلاف من الناجين على المراكز الطبية لعلاج إصابات تعرّضوا لها.
وحسب معلومات حصلت عليها "العربي الجديد" فإن قرابة 66 طبيباً فقدوا حياتهم في الولايات التي شهدت الزلازل، واستُبدلوا بكوادر من ولايات أخرى، فيما تُشرف وزارة الصحة على جميع الأطباء العاملين في المنطقة، إضافة إلى متابعة من الهلال الأحمر التركي ومنظمة إدارة الطوارئ والكوارث الحكومية "آفاد".
ويعد النظام الصحي التركي من بين الأفضل تنظيماً، وتتشدد الحكومة في التنظيم الطبي، وتسجل كل الوقائع رقمياً، لكن النظام الصحي تعرض للانهيار في تلك المناطق خلال الأيام الأولى للكارثة، إذ خرجت عدة مستشفيات من الخدمة بسبب تضررها، وخاصة في ولاية هاتاي التي تعد الأكثر تضرراً، فيما حافظت عدة مشافي تحوي تقنيات مضادة للزلازل على سلامتها، وواصلت عملها.
وحسب تصريحات سابقة لوزير الصحة التركي، فخر الدين قوجة، فإن قرابة 6 مشافٍ خرجت من الخدمة، وبدأ تقديم الخدمات عبر مشافٍ ميدانية أقيمت إلى جوارها، فضلاً عن إقامة مشافٍ ميدانية أخرى في الولايات المنكوبة، كما خصصت وزارة الدفاع سفينتين حربيتين كمستشفيين في مدينتي إسكندرون ومرسين.
وشملت أضرار سلسلة الزلازل التي ضربت المنطقة، وهزاتها الارتدادية، 10 ولايات هي كهرمان مرعش، وأدي يامان، وغازي عنتاب، وشانلي أورفة، ودياربكر، ومالاطية، وعثمانية، وأضنة، وهاتاي، وكيليس، وأضيفت إليها لاحقاً ولاية آلازيغ، ويقيم في هذه الولايات أكثر من 13 مليون شخص، من بينهم مليون و700 ألف سوري، بحسب أرقام رئاسة الهجرة التركية.
مشافٍ عدة تضررت في الزلزال وتم تقديم الخدمات عبر مشافي ميدانية
يعمل الطبيب مختار فاتح بي ديلي في مستشفى "ميديكال بوينت" في إزمير، لكنه تطوع للعمل في المناطق المنكوبة، ويقول عن أوضاع الأطباء وظروف عملهم والصعوبات التي تواجههم لـ"العربي الجديد": "هناك صعوبات كثيرة في القطاعين الطبي والإغاثي، على الرغم من العمل الجاد من قبل الهلال الأحمر ومنظمة آفاد ومنظمات الإغاثة المدنية التركية لتجاوزها بشكل فعال. لم تكن المنطقة مهيأة للكارثة، ولم يكن متوقعاً أن يضرب زلزالان قويان تركيا وسورية في آن واحد، الدمار طاول مدناً وبلدات في كلا البلدين في نفس الوقت".
يضيف: "من بين الصعوبات انقطاع إمدادات الطاقة الكهربائية والغاز، وتعطل الطرق الرئيسية، إما نتيجة الزلازل، أو تزاحم سيارات الإغاثة القادمة إلى مناطق الكارثة، وكذلك الانقطاعات في تغطية شبكة الإنترنت، مما أدى إلى الاعتماد في عمليات الإنقاذ على الرسائل النصية، وكذلك إغلاق مطاري غازي عنتاب وكهرمان مرعش، وهما المطاران الرئيسيان في المنطقة، فضلاً عن مطار هاتاي، مما تسبب في تأخر الوصول إلى المنطقة".
يتابع الطبيب التركي: "في ظل انخفاض درجات الحرارة في المناطق المنكوبة، كان الناس يحرقون كل ما يجدونه للتدفئة، ونتيجة لذلك أصيب كثيرون بأمراض تنفسية، والزلزال ضرب كل المباني، بما فيها المستشفيات، لذلك تم تأسيس نظام رعاية صحية مؤقت في المناطق المنكوبة يعتمد على المستشفيات الميدانية التي ضمت متطوعين من مختلف أنحاء العالم. تم إسعاف المصابين بجروح بالغة إلى المستشفيات، وإسعاف الإصابات البسيطة في المراكز الطبية الميدانية. كان البعض يعاني من الجفاف، أو من جروح بسيطة، والأطباء والمسعفون لم تكن لديهم ساعات عمل معينة، بل كانوا يعملون من دون توقف، مع ساعات قليلة للراحة والنوم في ظل البرد القارس، ومع عدم وجود مرافق مثل المراحيض وأماكن الاستحمام، لم يكن ذلك مهماً بالنسبة لكثيرين، فالجميع كانوا مهتمين بإنقاذ حياة المتضررين".
وختم فاتح بي ديلي بالقول: "مع استمرار إخراج الناس من تحت الأنقاض، وقع على عاتق الأطباء علاج الجروح، ثم محاولة لمّ شمل الأسر، لأن قليلاً منهم كان قادراً على العثور على أهله بمفرده بسبب عدم توفر خدمات الهاتف المحمول، وانقطاع الكهرباء في كثير من المناطق".
يقول طبيب الجراحة العامة في مستشفى "ألتن أوزو" بولاية هاتاي، مراد منلا، والذي نجا مع عائلته من الزلزال، لـ"العربي الجديد"، إن "القطاع الطبي في هاتاي تضرر بشكل كبير، لأن البنية التحتية للمشافي تضررت، ففي أنطاكيا، توقف مشفى الدولة القديم عن العمل، والمشفى الحديث تضرر، وتم إجلاء المرضى منه. أنشئ في المدينة مشفى ميداني عبارة عن خيام، والمشافي الخاصة ذات الطاقة الاستيعابية الكبيرة أيضاً تضررت، ومشفى الجامعة ما زال يعمل، وتحاول وزارة الصحة زيادة قدرته الاستيعابية".
يضيف أنه "في يايلاداغي، المستشفى الحكومي يعمل، لكنه صغير، ومستشفى ألتن أوزو لم يتضرر أيضاً، والخدمة مستمرة بهما، والحكومة كلّفت كوادر طبية من خارج الولاية للعمل فيهما، لكنهما مستشفيان صغيران بالنهاية، ما يجعل الخدمات الطبية تقدم بالحدود الدنيا، بينما الأمر يحتاج إلى دعم أكبر، فمنطقة الزلزال تشمل عدة ولايات، والدولة تحاول مساعدة الجميع، لكن الوضع صعب".
أوقفت الزلازل إمدادات الكهرباء والغاز وقطعت الطرق الرئيسية
يتابع الطبيب منلا: "المشافي الكبرى دمرت، وبالتالي فقدت الخدمة الصحية الجيدة، والمشافي التي لم يدمرها الزلزال صغيرة، وغير قادرة على الاستيعاب، بينما المشافي الميدانية لا تكفي، إذ لا تضم المعدات والأجهزة، ومن بينها وحدات العناية المشددة ووحدات متابعة المرضى، كما أن الكوادر مرهقة، فساعات العمل وفق مناوبات قد تمتد إلى 24 ساعة، وخلال أول يومين من الكارثة، لم يخرج بعض الأطباء لمدة 48 ساعة متواصلة من نقاط الإسعاف". ويواصل أن "الزلزال دمر مدينة أنطاكيا، وهي مركز محافظة هاتاي، وتهدمت الدوائر الحكومية، ومراكز الإطفاء، والبلديات، والمخافر، والمدارس، وباتت حالياً مدينة أشباح، خاصة في الليل مع غياب التيار الكهربائي، وتم قطع التدفئة بالغاز الطبيعي تجنباً للحرائق، ما يجعل الوضع كارثياً، وكل هذا أثر على عمل الأطباء".
بدوره، يقول الطبيب أوكتاي أونسال لـ"العربي الجديد" إنه انتقل من العاصمة أنقرة حيث يعمل، بعد تكليفه من قبل وزارة الصحية في مستشفى أدي يامان التعليمي، حيث عمل ليومين في قسم الإسعاف مع متطوعين قادمين من بقية الولايات، وبعد أن كان مستشفى التوليد في الولاية غير صالح للخدمة، تم تكوين قسم للتوليد والأطفال من الأطباء المختصين، وخلال فترة وجوده تم إجراء 10 عمليات ولادة، منها عملية واحدة قيصرية.
ويوضح أونسال أنه "بعد وقوع الزلزال، انهارت عدة أقسام في مستشفى أدي يامان، وتضررت أقسام أخرى بسبب الهزات الارتدادية، ورغم ذلك واصلنا متابعة الحالات الإسعافية، وكانت أعداد الحالات كبيرة، وتأتي في وقت واحد، وكانت متنوعة بين جروح وكسور. الحالات التي كانت تصل تشمل الأطفال والنساء وكبار السن، ونساء حوامل أيضاً، ما دفعنا إلى إنشاء قسم النساء والأطفال، وعمل فيه الأطباء المختصين بإمكانيات متواضعة، ورغم ذلك قدموا خدمات مهمة من دون كلل أو ملل، وساعات العمل كانت طويلة، وغير محددة رغم الجهد والتعب".
يتابع أن "عدداً من أطباء الولاية فقدوا حياتهم، وعدد كبير منهم فقدوا منازلهم، أو أحباءهم، لكن كان من المحتم عليهم العمل في ظل هذه الظروف الصعبة. غادرت المنطقة، لكنني أفكر بالعودة إليها مجدداً، فالعمل هناك مهم نظراً للحاجة إلى الرعاية التي لا تقف عند مداواة الجروح، بل تشمل معاينة حالات المنكوبين في الخيام، والذين يتعرضون لموجات برد وأمراض مختلفة".