في اليوم العاشر من شهر رمضان الأخير، الموافق الثالث من إبريل/ نيسان الماضي، وصل الزين (39 سنة) إلى العاصمة السودانية قادماً من قريته التابعة لريف مدينة أم روابة، 323 كيلومتراً جنوب غرب الخرطوم.
التجارة ليست مهنته الرئيسية، فهو يعمل بالزراعة المطرية في كردفان، وبعد نهاية الموسم وبيع الحصاد في شهر فبراير/شباط، جمع ما حصل عليه من مال، وغادر إلى الخرطوم ليستأجر مساحة مؤقتة أقام عليها خيمة صغيرة من القماش، وبدأ يعرض فيها أنواعاً مختلفة من الملبوسات والأحذية، وكان ينوي أن يجمع ما يربحه من مال في نهاية رمضان، ليعود إلى قريته لبدء تجهيزات الموسم الزراعي الجديد الذي يحل في يونيو/حزيران.
لكنه لم يتمكن من العودة إلى قريته في الموعد المحدد. أصيب الزين برصاصة طائشة مصدرها أحد طرفي القتال الذي احتدم على حين غرة في الخرطوم بين قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي"، ونقله أشخاص كانوا في المكان إلى مركز صحي متواضع بأحد أحياء العاصمة، لاستخراج الرصاصة من كتفه الأيمن، وبعد 17 ساعة من عملية جراحية أجريت بأدوات محدودة على يد طبيب مبتدئ، نجا من الموت، لكن بضاعته لم تنج، إذ شب حريق مفاجئ بسبب تبادل إطلاق النار في السوق، وأتى على محتويات الخيمة كاملة؛ فخسر الزين معاش ستة أطفال تركهم خلفه.
تعرّضت مئات المحال التجارية في العاصمة السودانية للحرق أو النهب
لا إحصائية رسمية بعدد المحال والبسطات التجارية التي احترقت في الأسواق الشعبية بولاية الخرطوم، نتيجة وقوعها في مرمى نيران المتقاتلين على السلطة، لكن مصادر غير رسمية تقدرها بأكثر من ألفي متجر، بعضها احترقت وأخرى نُهبت من قبل لصوص، في ظل الانفلات الأمني الناتج عن غياب السلطة، ما أفقد آلاف الأسر مصدر دخلها الوحيد.
يستأجر إدريس عبد الله، نصف منزل في "أمبدة"، أفقر أحياء الخرطوم، ويسكن فيه مع زوجته وأربعة أطفال، ويقول إنه فقد كل ما يملك من مال بسبب الحريق الذي قضى على سوق بحري. دفع إدريس نحو مائة دولار للسلطات المحلية مقابل منحه تصديق بيع لمساحة قدرها ثلاثة أمتار في المحطة الوسطى بالسوق، واشترى 27 "دستة" من أحذية النساء والأطفال، ليقوم بعرضها للبيع قبل أن يندلع القتال، ولأنه كان يتوقع توقفه سريعاً، ترك بضاعته في مكانها مثلما كان يفعل في كل مرة، وذهب للاطمئنان على أطفاله، لكن القتال انتقل إلى مناطق أخرى، وصار أكثر ضراوة، وأصبح خروجه من المنزل مخاطرة، فجثث القتلى تملأ طرقات الخرطوم.
يقول إدريس: "فقدت كل ما أملك من مال، ولدى أربعة أطفال، فمن أين أوفر لهم الطعام والشراب؟ أستأجر نصف منزل بما يعادل 200 دولار أميركي يطلبها صاحب العقار شهرياً، ولو تأخرت شهراً واحداً سيجبرني وأطفالي على المغادرة، ولن يكون أمامنا سوى النوم في العراء. أنا بائع متجول، ومضطر للذهاب يومياً إلى السوق من أجل توفير الطعام لأطفالي، لكن بعد اليوم، لن أستطيع شراء الطعام، ولا حتى دفع إيجار المنزل، فليس لدى أموال في البنك، أو خزانة في البيت، وكل ما أمتلكه من مال اشتريت به تلك الأحذية لبيعها، قبل أن تدمرها النار خلال الحريق".
أثناء حديثه عبر الهاتف لـ"العربي الجديد"، كان أحد أطفاله يصرخ، فقال إدريس: "طفلي هذا عمره 3 سنوات، وهو يبكي منذ ساعتين لأنني لم أتمكن من شراء الحليب له مثلما كنت أفعل في السابق، فلا أملك المال للشراء في الوقت الراهن، لكن الطفل لا يفهم ذلك، كما أنني ليس لدى مال لمغادرة الخرطوم، وهنا لا يهتم أحد بأمرنا، والحرب ما زالت مستعرة، ولو استمر الحال هكذا فإن أطفالي سيعانون من شدة الجوع".
لم يكن إدريس يدخر طعاماً في البيت، وكان يعمل يومياً لتوفير الوجبات، ومنذ توقفه عن العمل بسبب الحرب، ثم فقدان البضائع التي كان يبيعها، صار يوفر وجبة واحدة لأطفاله، خشية نفاد المواد الغذائية الشحيحة أصلاً.
أما الزين عبد الله، فلم يكن ألمه من الجرح الغائر في كتفه فحسب، وإنما ألمه الحقيقي يتمثل في ضياع الأموال التي جمعها من الزراعة، وأراد استثمارها مثلما يفعل سنوياً في تجارة الملبوسات، ليتمكن من دفع الرسوم الدراسية لابنه الذي يدرس بإحدى جامعات الخرطوم، وابنته التلميذة بمرحلة التعليم الأساسي. لكن الحريق قضى على تجارته، وهو لا يتوقع تعويضاً من السلطات، وربما يتسبب ذلك في عدم دفع مصروفات العام الدراسي لابنه، في حال توقفت الحرب، وقررت الجامعات استقبال الطلاب مجدداً.
بعد إصابته، وفقدان أمواله، لم يرجع الزين إلى قريته. يقول: "لا أملك قيمة التذكرة، والتي تضاعف سعرها أكثر من عشرة أضعاف. صرت مشرداً في الخرطوم، وأطفالي جوعى في القرية".
تقدر عدد المحال المتضررة كلياً من الحريق في سوق بحري بنحو 1245 محلاً، وكلها حصلت على "تصاديق مؤقتة" تمنحها السلطات المحلية مقابل رسوم، وجميع مستأجري هذه المحال ليسوا تُجاراً في الحقيقة، بل هم أرباب مهن هامشية أخرى، لكنهم يستغلون موسم رمضان لبيع المستلزمات الأسرية المختلفة، وبعد العيد يعودون إلى مهنهم السابقة.
إبراهيم عيسى (57 سنة)، أب لسبعة أبناء، وهو أحد ضحايا حريق سوق بحري، يقول: "لديّ كشك صغير في وسط الخرطوم لبيع الأطعمة الجاهزة والعصائر، وبالطبع يتوقف العمل في رمضان، لأن بيع الأطعمة والمشروبات ممنوع في نهار رمضان بالخرطوم. قبل حلول رمضان من كل عام، أحصل على تصديق مؤقت من السلطات في بحري لأعرض في السوق ملابس أطفال وأحذية، من أجل تغطية نفقات الأسرة في ظل التوقف عن بيع الأطعمة، ثم أعود إلى عملي بعد عيد الفطر".
خسر عيسى ماله في الحريق، ويخشى أنه لن يستطيع العودة إلى مزاولة بيع الأطعمة لعدم امتلاكه المال لشراء مستلزمات صناعة السندوتشات والمشروبات، ولا حتى دفع إيجار المحل.
لا إحصائية رسمية بعدد المحال المحترقة في أسواق الخرطوم
تعرضت مئات المحال التجارية في العاصمة السودانية للنهب، أو الحرق، لكن الأضرار التي لحقت بالعاملين في الأسواق الشعبية تختلف عن غيرهم، فهؤلاء الذين يقدر عددهم بالآلاف، لا يملكون رؤوس أموال يستعيضون بها عن ما فقدوه، وليس لديهم تعاملات مع جهات تجارية يمكن أن تقوم بتمويلهم مجدداً.
الطيب يوسف واحد ممن فقدوا بضائعهم في "سوق جاكسون" القريب من قيادة الجيش بالخرطوم، ويقول: "نشب القتال في الساعة العاشرة صباحاً، وقتها كنت خارج المحل، وحين حاولت العودة كان كل شيء قد انتهى، أنا الآن صفر اليدين، ولدى أسرة تحتاج إلى الطعام، وصاحب المنزل الذي أسكن فيه لن يصبر عليّ أكثر من شهر واحد، فهو أيضاً يحتاج لإطعام أسرته".
لدى الطيب ثلاثة أبناء يدرسون بمراحل التعليم المختلفة، من بينهم واحد في الجامعة، وهم يحتاجون إلى رسوم ومصاريف، وبات مستقبلهم مرهوناً بإيجاده عملاً جديداً قبل إعادة فتح مؤسسات التعليم أبوابها.
قضت الحرائق على سوق بحري بالكامل، وعلى أجزاء من السوق المركزي بالخرطوم، الواقع بالقرب من المدينة الرياضية التي انطلقت منها المعارك صبيحة 15 إبريل، وعلى أكثر من ثلث سوق جاكسون، وتضرر آلاف الأشخاص الذين يعرضون سلعاً موسمية، وصاروا بين ليلة وضحاها يبحثون عن المساعدة لشراء الطعام.
يقول ياسر جبريل، وهو بائع بالسوق المركزي: "كل الباعة في الأسواق التي تضررت كانت أرباحهم المالية تكفي أسرهم ليوم واحد، وبمجرد فقدانهم بضائعهم صاروا يستحقون العون العاجل".
ومن بين المتضررين، يعقوب آدم، وهو طالب بجامعة الخرطوم، جاء من مدينة الفاشر بولاية شمال كردفان، وكان يمتلك كشكاً صغيراً بسوق جاكسون يبيع فيه الملابس الداخلية والجوارب، وكان يعمل فيه بعد نهاية اليوم الدراسي، قبل أن يعود ليلاً إلى مقر سكنه القريب من "داخلية حسيب" التي تتبع جامعة الخرطوم.
يقول يعقوب: "الحريق الذي شب في السوق أحرق بضاعتي، ولا أعرف مصيري حين تفتح الجامعة أبوابها. أسرتي توقفت عن إرسال المصاريف الشهرية لي قبل عامين، وكنت أكسب من البيع ما يوفر الطعام ويدفع الرسوم الجامعية، وربما أضطر إلى تأجيل عام دراسي من أجل البحث عن عمل أتدبر به معاشي".