"إيماني هو أنّ كلّ خطوة هي بداية أبحاث علمية، ويُستهَلّ بها طريق طويل من الجهود. أمّا حلمي فأن أعمل مع وكالة ناسا وأضع أسساً لمحطة فضاء فلسطينية". هكذا تبدأ المهندسة الفلسطينية الشابة بيان أبو سلامة حديثها إلى "العربي الجديد". وفي شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تناولت وسائل إعلامية ووسائل تواصل اجتماعي خبر إعلان المهندسة ابتكار طريقة جديدة في إنشاء الأقمار الصناعية المصغّرة، في أطروحة الماجستير التي قدّمتها في جامعة "كوين ماري" في لندن. وقد لفتت الشابة البالغة من العمر 25 عاماً، وهي خرّيجة قسم الهندسة الميكانيكية في جامعة "بيرزيت" في الضفة الغربية، انتباه كثيرين من جميع أنحاء العالم، خصوصاً عند إطلاقها اسم "فلسطين 1" على مشروعها.
تروي أبو سلامة حكايتها وشغفها منذ البداية، فتقول: "بدأ شغفي بالفضاء منذ طفولتي. كنت أراقب النجوم وأدور حتى يتهيّأ لي أنّها تلفّ معي. ولطالما كان عندي فضول لمعرفة ما تخفيه الأعالي، وكنت أكرّر دوماً أنّني أريد أن أصبح رائدة فضاء. واستمرّ الحلم في مراهقتي. وعندما دخلت إلى الجامعة، شعرت بأنّني بتّ قريبة من حلمي، تحديداً من خلال أطروحة الماجستير". تضيف: "اخترت الهندسة الميكانيكية ولاحقت حلمي وشغفي، على الرغم من نظرة المجتمع إليّ كامرأة تخوض عالماً يسيطر عليه الرجال. ولا أنكر أنّني مررت أحياناً بلحظات شكّ أضعفتني، لكنّني تجاوزتها وازددت تصميماً على تحقيق الهدف".
بعد إنهاء دراستها الجامعية، تقدّمت أبو سلامة بطلب للحصول على منحة "تشيفنينغ" الدولية التي تخصّصها الحكومة البريطانية لطلاب يظهرون قدرتهم على القيادة من أكثر من 160 دولة ومنطقة، من أجل متابعة دراسات عليا أو دورات في جامعات في المملكة المتحدة. ولا تخفي الشابة الفلسطينية كم كانت سعادتها كبيرة عند حصولها عليها من المرّة الأولى. وتشير إلى أنّ الأعمال التطوعية التي أتت بها في خلال دراستها الجامعية ساهمت في ذلك، لأنّها فتحت لها مجالات للتعرّف إلى أناس من بلدان مختلفة والسفر إلى الولايات المتحدة الأميركية لإلقاء محاضرات، من بينها محاضرة في جامعة هارفرد في بوسطن.
تزامنت دراسة أبو سلامة الماجستير في لندن مع تحديات عدّة، منها أزمة كورونا التي حرمتها من الاستفادة من خدمات الجامعة مثل المكتبة والمختبر، وكذلك أحداث الشيخ جرّاح التي عايشها أهلها في الوطن. بالتالي كثرت الضغوط النفسية عليها في وقت كان ينبغي عليها العمل على مشروعها والدراسة وتقديم الامتحانات. تقول: "كنت أتألم من داخلي، لكنّ دعم أهلي وأصدقائي هنا وفي الضفة الغربية ساعدني وعلمّني أن أكون قوية".
بالنسبة إلى المهندسة الشابة، فإنّ "التعليقات السلبية قد تكون من أصعب التحديات التي تواجهنا عادة"، مضيفة "ما زلت أذكر أشخاصاً قابلوا حماستي بفتور واستهزاء وحاولوا إحباطي". ولا تنكر أنّ "كلماتهم بقيت في بالي لسنين عديدة، لكنّها لم تهدّ عزيمتي بل زادت من إصراري". وتخبر عن حادثة أثّرت بها في خلال البكالوريا، عندما أخبرت زميلاً لها عن فكرة الأقمار الصناعية، فردّ عليها ساخراً: "وهل لدينا وكالة فضاء فلسطينية؟ ما الذي سيوصلك إلى القمر؟". تضحك أبو سلامة وتقول: "في البداية أردت أن أنجز فكرتي مجاكرة (بهدف الإغاظة). لكنّ الأمور تبدّلت لاحقاً بالتأكيد، وصار إيماني بوجود فلسطين في صناعة الفضاء اهتمامي الأكبر". وتتابع أنّها ترى اليوم تغيّراً إيجابياً في مواقف أناس كثيرين من حولها مع تقبّلهم فكرة عمل امرأة في الهندسة الميكانيكية والفضاء، لافتة إلى أنّ "التغيير في أيّ مجال يبدأ من فكرة يراها الناس غريبة، لكن سرعان ما يؤمنون بها مع أوّل إنجاز".
وعن إطلاقها اسم "فلسطين 1" على مشروعها، تقول أبو سلامة إنّ "التصميم بحدّ ذاته يتمتّع بطابع فلسطيني، وهو ما يعني أنّ أيّ شخص يراه سوف يدرك أنّ قالبه فلسطيني. من هنا جاءت فكرة تسميته". وتشير الشابة إلى أنّها لا تستطيع الخوض أكثر في التفاصيل لأنّ محاميها يعمل حالياً على إجراءات تسجيل حقوق الملكية الفكرية. وفي ما يتعلق بإمكانية تلقيها دعماً مالياً من جهات عربية أو أجنبية لتنفيذ مشروعها، تقول أبو سلامة: "سوف يكون من اللطيف جداً حدوث ذلك. لكن حتى لو لم تهتمّ أيّ جهة رسمية بالمشروع، فقد عبّر أفراد من كلّ أنحاء العالم عن رغبتهم في دعمه عبر رسائل وصلتني". وتستطرد موضحة أنّ "مشروع الأقمار الصناعية يحتاج عادة إلى سنوات من الدراسة والتأكّد من نجاحه في الفضاء وتنفيذه، وأنا آمل أن يُرى فلسطين 1 في الفضاء الخارجي في خلال ثلاثة أعوام".
وتتوقّع أبو سلامة أن يواجه إطلاق مشروعها عراقيل سياسية، لكنّها تؤكد أنّه "من الممكن اتّباع خطوات معيّنة في حال حدوث ذلك، خصوصاً أنّ الهدف من هذا المشروع هو أكاديمي ويقدّم حلولاً مبنيّة على أسس البحث العلمي لمشكلات منطقة الشرق الأوسط، منها الزحف العمراني". وتوضح أنّ "توزيع الأراضي بين زراعية ومأهولة بالسكان بات يشكّل خطراً على موارد المنطقة، بالتالي ينبغي أن يكون التخطيط العمراني فيها مبنياً على معلومات جوية لا أرضية. وما يحدث حالياً لا يوصل الصورة كاملة بل يوفّرها بحسب المناطق. ويمكن للزحف العمراني أن يؤثّر على هذه الأراضي بعد عشرة أعوام على سبيل المثال، وليس الآن. لذلك فإنّ توفّر صور جويّة يمكّن الجهات المختصة من توزيع التخطيط العمراني لعدد من الأعوام وليس لعام واحد أو عامَين فقط".
كذلك تدخل مسألة التغيّر المناخي من ضمن اهتمامات أبو سلامة التي تشير إلى أنّ "المؤتمرات العالمية تتناول منطقة الشرق الأوسط وتقّدم حلولاً لها لا ترتكز على أساس علمي ولا على صور جوية"، آملة أن "يوفّر فلسطين 1 أسساً علمية لحلّ مشكلة تغيّر المناخ في هذه المنطقة". تضيف أنّ "العالم يتعامل مع التغيّر المناخي كمشكلة جيوسياسية فقط، لكنّ القضية أعمق من ذلك ولا ينبغي أن تُفرض سياسات خارجية على مناطقنا للوصول إلى حلّ مثالي لتغيّر المناخ، بل يجب أن نمتلك أسساً علمية نستطيع من خلالها أن نرى المناطق الواجب استهدافها لحلّ المشكلات". وتتابع المهندسة الشابة: "هذا ما يحدث عادة في كلّ المؤتمرات. المملكة المتحدة مثلاً رأت أنّ منطقة الشرق الأوسط في حاجة إلى سياسات خارجية أو تدخّل بريطاني في المنطقة لحلّ مشكلة تغيّر المناخ. لكنّ السؤال الذي يُطرح هنا: على ماذا اعتمدت المملكة المتحدة للتوصل إلى هذا القرار؟ هل اعتمدت على دراسة أو صور جوية للمنطقة؟ أرى أنّ وضع حلول مماثلة هو بدعة".
وعن دراستها في فلسطين ومدى مساعدتها في بناء شبكة تواصل عالمية، تقول أبو سلامة "منحتني شخصية معيّنة استخدمتها عند وصولي إلى لندن. فجامعة بيرزيت تفرض على طلابها نهج فلسطين الهوية والقضية إلى جانب الدراسات الأوروبية، والهدف منها مناقشة المشكلات الدولية لمفكّرين أجانب وعرب". وترى الشابة أنّ "هذا النهج أساسي لبناء شخصية الطالب وترسيخ إيمانه بأنّ القضية الفلسطينية هي قضية عادلة. وقد أعطتني الأسس العلمية التي أتاحت لي دراسة الماجستير في جامعة بريطانية".
من جهة أخرى، تصرّ أبو سلامة على توجيه رسالة إلى الطالبات الجامعيات، خصوصاً في مجال التخصصات العلمية اللواتي يواجهنَ آراء تحاول إقناعهنّ بأنّه لا يمكن للمرأة أن تعمل في مجالَي العلم أو الهندسة. وتقول: "عليكنّ إسكات هذه الأصوات. ليس من المنطقي أن يسيطر الرجال على هذه الصناعة ونحن في عام 2021".