على "شاطئ السلام" في محافظة قابس جنوب شرقي تونس تلفظ عشرات السلاحف البحرية أنفاسها، وتنتشر أصدافها على الرمال لتشهد على القتل البطيء الذي تتعرض له الحياة البحرية في خليج يشكل أكبر مصدر للأسماك والثروات البحرية في البلاد.
وتتسبب مخلفات "الفوسفوجيبس" التي ينتجها المركب الكيمياوي في قابس الذي أنشأته السلطات التونسية عام 1972 لتحويل منتجات الفوسفات الذي يستخرج من منطقة الحوض المنجمي بمحافظة قفصة (جنوب غرب)، تمهيداً لنقله عبر قطارات إلى قلب قابس وتصديره عبر مينائها التجاري، في نفوق الأصناف البحرية. وقد رصد نشطاء بيئيون جثثاً لكائنات بحرية كثيرة نفقت على امتداد شاطئ السلام بعدما أحرقتها مادة "الفوسفوجيبس".
ويصف المتخصص في السياحة الإيكولوجية خالد الأزعب لـ"العربي الجديد" ما يحصل على شاطئ قابس بأنه "كارثة للحياة البحرية الآمنة والسليمة". ويعتبر أن الوضع البيئي أصبح في غاية الخطورة، محذراً من أن "أحداً لا يستطيع تقدير حجم الخسائر التي قد تترتب عن تواصل إلقاء الفوسفوجيبس وباقي المواد الكيمياوية في البحر، ونشرها على اليابسة".
ويشدد على أن "كل شيء ملوّث في قابس، البحر واليابسة والهواء. والكائنات تدفع غالياً ثمن خيارات تنموية سمحت بأن ينفث مركب كيمياوي سمومه في قلب واحة بحرية تحوّلت إلى أكبر منطقة صناعية للمعالجة الكيمياوية في تونس".
ويوفر موقع المركب الكيمياوي في قابس اليوم نحو 57 في المائة من الإنتاج الوطني لحمض الفسفور الذي يستخدم في الصناعات المعدنية، وتلك الخاصة بمواد التنظيف والأسمدة، وإنتاج المياه الغازية.
ووسعت السلطات منشآت المركب الصناعي ضمن مشاريع نفذتها حتى عام 1985، حيث أنشأت مصنعاً لإنتاج مادة فوسفات الأمونيوم وآخر لإنتاج مادة "الأمونيتر"، وكلاهما يستخدمان كسماد، ما جعل قابس أكبر موقع لإنتاج الأسمدة وحمض الفوسفور في تونس.
وعلى امتداد السنوات الأخيرة، نظم أهالي قابس ومنظمات مدنية عشرات الاحتجاجات للمطالبة بتفكيك مركب الإنتاج الكيمياوي، ونقله إلى مكان آخر لتقليص نسبة التلوث في المدينة، وإعادة الحياة إلى بحرها الذي تحوّل إلى مساحة مائية للموت.
وتواصل جمعية "أوقف التلوث" المطالبة بإنهاء ما تصفه بأنها "مأساة بيئية حوّلت الواحة البحرية العالمية في قابس إلى مكب كبير للنفايات الكيمياوية". ويقول الناشط في صفوفها خير الدين دبيّة لـ"العربي الجديد": "يتنفس مواطنو قابس منذ 45 عاماً هواءً ملوّثاً بغازات أوكسيد الكبريت وأوكسيد النتروجين والفلوريد وكبريتيد الهيدروجين، وغيرها من السموم".
يضيف: "نوثّق كل الانتهاكات التي تحصل على شاطئ قابس، والتي شكلت محور فيلم وثائقي عُرض خلال قمة مناخ غلاسكو الأخيرة للمناخ من أجل إلقاء الضوء على القضية الكارثة، علماً أن الخليج البحري في قابس يوشك على التصحّر، بعدما تقلصت الأصناف البحرية التي تعيش فيه من 250 عام 1965 إلى 50 فقط".
ويؤكد أن "تصحّر البحر" والنفوق المستمر للحيوانات المائية، دفعا الصيادين الذين يبحرون في خليج قابس إلى تنظيم احتجاجات نددت بنقص الموارد البحرية تدريجاً، والتي تمثل مصدر رزقهم الوحيد وتعيل أسراً عدة.
وتشير جمعية "إنقاذ البيئة في قابس" إلى أن حجم الإشعاعات التي تنبعث من شواطئ المدينة تتجاوز بنحو 4 أو 5 أضعاف الرقم الأقصى الذي تحدده الهيئة الدولية للوقاية من الإشعاع. وتقول عضو منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المكلفة بملف البيئة إيناس الأبيض لـ"العربي الجديد" إن "السياسات الحكومية لا تأخذ في الاعتبار المشاكل البيئية، وتترك الطبيعة الحلقة الأضعف في مشاريع التنمية التي تعطي أولوية للصناعات على حساب حقوق المواطنين بالحصول على هواء وبيئة سليمة". تضيف: "أجريت دراسات بيئية عدة لتحليل الهواء ومياه البحر، لكنها لم تنفع في لجم نيات الجهات العليا في مواصلة جعل قابس ترزح تحت جرائم بيئية يدفع جميع مواطنيها ثمناً صحياً غالياً لها".
ويفيد تقرير أصدره برنامج الأمم المتحدة للبيئة أنه "رغم أن السلطات التونسية أقرّت نصوصاً قانونية لمراقبة ومتابعة انبعاثات الغاز، لكنها لم تشمل المركب الكيمياوي في قابس الذي تتمتّع منشآته بوضع استثنائي كون أنشطته ذات أهمية كبيرة".
وتصنّف القوانين في تونس "الفوسفوجيبس" بأنه من "النفايات شديدة الخطورة التي تحتوي معادن ثقيلة ومواد إشعاعية عدة مثل السترونشيوم والكادميوم والرصاص، النيكل واليورانيوم". ويؤكد تقرير الأمم المتحدة أن "المجمع الكيمياوي في قابس لا يلتزم بالقوانين الخاصة بالتصرف بالنفايات الخطرة، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة من خلال السيول السوداء التي يلقي بها في مياه البحر".