بدأ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أمس الثلاثاء، زيارة إلى روسيا تدوم ثلاثة أيام، بدعوة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يعقد خلالها الرئيسان قمة ثنائية ومحادثات تشمل قطاعات استراتيجية وحيوية عدة، والتوقيع على وثيقة "التعاون الاستراتيجي المعمّق". يأتي ذلك في توقيت دولي صعب بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا، ما قد يتسبب في حرج سياسي كبير بالنسبة للجزائر.
وخلال الزيارة، سيوقع الرئيسان على وثيقة أعدت منذ فترة تحت عنوان "التعاون الاستراتيجي المعمّق"، والتي تُعتبر تطويراً لاتفاق الشراكة الذي كان وقعه بوتين والرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة عام 2001، وتُعدّ بحسب المسؤولين في البلدين "مرجعاً محدداً يؤطّر العلاقات الجزائرية الروسية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتتويجاً لعلاقات نوعية بين البلدين"، وتستهدف إخراج العلاقات الجزائرية الروسية من مربع التعاون العسكري الذي هيمن عليها منذ الستينيات، إلى المجالات الاقتصادية والتجارية وقطاعات حيوية أخرى.
ملفات سياسية خلال الزيارة
وفي وقت علمت "العربي الجديد" أنه جرى الاتفاق خلال مراحل تحضير الزيارة على تحييد ملف التعاون العسكري عن أجندتها، وإبقاء نقاش هذا الملف بين القيادات العسكرية وقادة الجيشين، وُضعت جملة من الملفات السياسية لتكون قيد التباحث.
وتتصل هذه الملفات بالعلاقات الدبلوماسية والتنسيق السياسي حول قضايا إقليمية تهم البلدين، وتوسيع الشراكة في قطاعات حيوية كالطاقة والزراعة والسياحة، وتكنولوجيا المعلومات وعلوم الفضاء، إلى جانب إعادة تفعيل أكبر للتعاون العلمي والبعثات الجامعية، وبعثات المراكز الثقافية والتعاون في المجال الإعلام والاتصال.
جرى الاتفاق خلال مراحل تحضير الزيارة على تحييد ملف التعاون العسكري عن أجندتها
وتنظم في هذا السياق جولة ثانية من "منتدى الأعمال الجزائري الروسي"، يشارك فيه وفد من رجال الأعمال الجزائريين ومدراء كبرى الشركات الاقتصادية الجزائرية التي تعمل في قطاعات مختلفة، وعدد من رجال الأعمال والشركات الروسية، كما يمثل اللقاء الاقتصادي، فرصة لعرض فرص الاستثمار والشراكة في الجزائر.
مع العلم أن الجولة الأولى عقدت في الجزائر قبل نحو 10 أيام. وأكد السفير الروسي، فاليري شوفاييف، في نقاش على هامش اليوم الوطني لروسيا، قبل أيام، أنه يتعين العمل على إنجاح منتدى الأعمال الجزائري الروسي الذي سيعقد خلال زيارة تبون من خلال توفير فرص للشركات الجزائرية لمقابلة شركات روسية تعمل في نفس المجالات.
وسينتقل تبون من موسكو، والتي يلتقي فيها أيضاً أفراد الجالية الجزائرية المقيمة في روسيا، إلى مدينة سانت بطرسبرغ للمشاركة كضيف شرف في المنتدى الاقتصادي السنوي الضخم، والذي يقام في المدينة بمشاركة قادة سياسيين وأكثر من 1700 من مدراء شركات وأقطاب اقتصادية، من 33 دولة.
مصالح الجزائر الاستراتيجية
وتؤكد زيارة تبون حسم الجزائر لخيارها الاستراتيجي في الانخراط الكامل ضمن قطب الشرق، والذي تمثله روسيا والصين، والابتعاد عن المحور الغربي، والذي كان يمثله الثقل الفرنسي السياسي والاقتصادي في الجزائر، وتجاوز الأخيرة للمواقف الغربية القلقة بشأن علاقتها المتزايدة مع روسيا.
كما يبرز اختيار الجزائر لتوقيت مناسب لمفاوضة موسكو، ومحاولة مبادلتها المصالح الاستراتيجية والحيوية، خارج العنوان الكلاسيكي للتعاون العسكري، والبحث عن عناوين جديدة يمكن أن ترتكز عليها العلاقات بين البلدين. فالجزائر تستهدف الحصول على دعم أكبر من موسكو بشأن تخفيف الشروط وتيسير انضمامها إلى مجموعة "بريكس" (تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، وتعاون أكبر في مجال الطاقة وتكنولوجيا التنقيب عن الغاز، واستهداف الخبرة الروسية في مجال الأمن السيبراني، وفي مجال زراعة الحبوب، والاستفادة من سوق السياحة وجلب السياح الروس إلى الجزائر.
بابا عربي: الجزائر نقطة ارتكاز لروسيا في سياستها الخارجية
وتعتبر تقديرات دبلوماسية أن الظرف الحالي مناسب جداً للجزائر من أجل طرح حاجياتها الاستراتيجية، حيث تكون فيه موسكو أكثر قابلية للاستجابة لبعض المطالب والحاجيات الجزائرية، خصوصاً أن روسيا بحاجة إلى الارتكاز على الجزائر كحليف موثوق به، تزداد أهميتها وثقلها الإقليمي في بعض المناطق كالمنطقة العربية، وفي أفريقيا والساحل مثل مالي والنيجر وغرب أفريقيا، حيث تناكف روسيا التواجد الفرنسي في دول المنطقة.
وهو ما فسّره بوضوح تصريح أدلى به السفير الروسي في الجزائر، خلال احتفال اليوم الوطني لروسيا، إذ لخّص ما تنتظره موسكو من الجزائر، قائلاً إن "موسكو تنتظر من الجزائر أن تكون طرفاً قوياً في الثورة الجيوسياسية الحاصلة في العالم والنظام الدولي، بما لها من مقومات وإمكانات وثقل سياسي في منطقتها".
وفي هذا الصدد، اعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة ورقلة جنوبي الجزائر بابا عربي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن العلاقات التاريخية بين البلدين قد مكّنت الطرفين من بلورة مستوى متطور من التنسيق بخصوص العديد من القضايا. ولفت إلى أنه إذا كانت حاجيات الجزائر ومتطلباتها من موسكو واضحة، فإن السؤال الأبرز هو عن المتطلبات الروسية من الجزائر.
وقال عربي إنه "من المؤكد أن روسيا تنتظر الكثير من الشراكة القائمة مع الجزائر، فعلى الصعيد السياسي تعتبر الجزائر نقطة ارتكاز مهمة لروسيا في سياستها الخارجية تجاه أفريقيا والمنطقة العربية". واعتبر أنّ "الحضور القوي لروسيا في الساحل الأفريقي يحتاج إلى دعم ومساندة سياسية وحتى لوجستية من الجزائر". ولفت إلى أن الأمر نفسه "بالنسبة لموقف روسيا وتدخلاتها في كل من سورية وليبيا" حيث يعتبر الدعم الجزائري مؤثراً.
وأضاف العربي أنه "على المستوى الاقتصادي تنظر روسيا للجزائر بالأساس على أنها زبون تاريخي للسلاح الروسي، ومن المهم أيضاً الحفاظ على الشراكة القائمة في هذا المجال من خلال إبرام المزيد من الصفقات على المدى البعيد. ولفت إلى أن روسيا تنتظر أيضاً من الجزائر" تنسيقاً عالي المستوى بخصوص إمدادات الطاقة لأوروبا، إذ إن هناك حاجة للتنسيق حول الخيارات المتاحة لأجل تقاسم مرضي لحصص السوق بما يخدم مصالح الطرفين".
زيارة تبون لموسكو في توقيت سياسي حرج
لكن زيارة تبون إلى موسكو، تأتي في توقيت دولي حرج، سيضع الجزائر في قلب حملة مواقف وقراءات غربية تفسر الزيارة في سياق إسناد ودعم سياسي جزائري واضح لموسكو وبوتين، في خضم أكثر فترات الحرب الروسية في أوكرانيا قتامة وتعقيداً.
كما لا يستبعد أن تزيد الزيارة من تركيز القوى الغربية المناوئة لروسيا على الجزائر، خصوصاً بعد أن كان 27 عضواً في الكونغرس الأميركي تتزعمهم النائبة الجمهورية ليزا ماكلين، قد طالبوا في رسالة إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن في سبتمبر/أيلول الماضي، بفرض عقوبات على الجزائر، وإدراجها ضمن ما يعرف بـ"قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات" (أقره الكونغرس عام 2017)، على خلفية صفقات أسلحة بلغت قيمتها الإجمالية أكثر من سبعة مليارات دولار، اعتبرت أنها تمويل لآلة الحرب الروسية.
تنشيط سياسي للعلاقات بين البلدين خلال العقدين الماضيين
كما كان نائب رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي ماركو روبيو، قد وجه رسالة مماثلة في 14 أغسطس/آب 2022، اعتبر فيها أن "المشتريات الدفاعية الجارية بين الجزائر وروسيا تصب في صالح تدفق الأموال إلى روسيا لتمكين آلة الحرب الروسية في أوكرانيا".
وكانت زيارة تبون إلى موسكو، مقررة نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، قبل أن يتم التوافق على تأخيرها في آخر وقت، من دون توضيح أسباب ذلك.
وشهد محور الجزائر موسكو تنشيطاً سياسياً لافتاً خلال العقدين الماضيين، وتوالت منذ عام 2001 الزيارات بين الرؤساء في البلدين. ففي 2001 زار بوتفليقة موسكو، وتم خلال الزيارة التوقيع على "إعلان الشراكة الاستراتيجية". وفي عام 2006، زار بوتين الجزائر، ثم قام بوتفليقة بزيارة ثانية إلى روسيا عام 2008، في الفترة التي ساهمت فيها روسيا في إطلاق قمرين اصطناعيين جزائريين، تلتها زيارة للرئيس ديميتري ميدفيديف عام 2010.
كما زار الرئيس الجزائري السابق عبد القادر بن صالح موسكو عام 2019، خلال فترة الحراك الشعبي، طلب خلالها دعم موسكو ضد الضغوط الغربية، فيما كان وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف والجزائري رمطان لعمامرة (استبعد من منصبه في مارس/آذار الماضي) قد تبادلا أكثر من زيارة.