في خطوة جديدة من شأنها إزاحة الأجهزة الحكومية في مصر عن اختصاصها الأصلي في مباشرة المشاريع ذات الصفة القومية، والتعاقد بشأنها مع القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب، وغيرها من الجهات داخل وخارج مصر، وإسناد هذه الملفات إلى دائرته الخاصة، المكونة من المخابرات العامة والرقابة الإدارية، أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قراراً بضم ممثل للمخابرات وآخر عن الرقابة الإدارية إلى اللجنة المشكلة منذ العام 2017 لمتابعة ودراسة المشاريع الحكومية المتعثر إنهاؤها، والمرغوب حالياً في إعادة استثمارها وتسويقها، بالتعاون مع الأجهزة السيادية، كالجيش والمخابرات والرقابة. يشار إلى أن جهاز المخابرات يديره صديق السيسي ومدير مكتبه السابق عباس كامل ويشارك في إدارته حالياً نجله الضابط محمود، فيما يدير الرقابة الإدارية الضابط في الجيش شريف سيف الدين، ويشارك في إدارتها نجل السيسي الآخر الضابط مصطفى.
وكانت هذه اللجنة قد شكلت برئاسة رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم محلب، باعتباره مساعداً للسيسي لشؤون المشاريع القومية والاستراتيجية، وباشرت مهام عملها لفترة وجيزة ثم جُمدت عملياً بسبب سوء حالته الصحية، حسب ما كشف مصدر حكومي مطلع على أعمال اللجنة، فضلاً عن اختلاف الهدف المراد منها في نظر السيسي ودائرته عما كان يتصور محلب أنه مكلف بتفعيله. فرئيس الحكومة الأسبق، الذي كان قبل دخوله الحكومة عقب انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 رئيساً لأكبر شركة مقاولات حكومية "المقاولون العرب"، كان يتصور أن الهدف من هذه اللجنة هو إحياء المشاريع القومية الحكومية، وتحسين أدائها، وتطويرها بالتعاون مع الجيش، الذي كان ممثلاً في اللجنة بكل من رئيس المكتب الاستشاري بالكلية الفنية العسكرية، ومساعد وزير الدفاع للشؤون القانونية للأراضي والمشاريع. والأخير منصب جديد تم استحداثه في 2016 في الجيش ليصبح مفوضاً من الوزير وهيئات الجيش المختلفة في التعامل القانوني مع الحكومة، لمجاراة الزيادة الضخمة في عدد المشاريع والأراضي التي انتقلت ملكيتها من الحكومة والقطاع العام إلى الجيش بقرارات السيسي المتتابعة، بشأن نقل تبعية الأراضي الصحراوية والمحيطة بالطرق والكباري واستثمارها بواسطة جهاز الخدمة الوطنية التابع للجيش.
وقال المصدر الحكومي إنه تبين، بمرور الوقت، أن الهدف من تشكيل اللجنة هو منح الجيش والأجهزة السيادية، التي دخلت على خط الاستثمارات والمشاريع الهادفة للربح، كالمخابرات العامة والرقابة الإدارية ووزارة الداخلية، أفضلية على حساب الوزارات المعنية بالمشاريع القومية، للسيطرة عليها، وإعادة التعاقد بشأنها وإعادة هيكلتها بما يتماشى مع الاتجاه الجديد للنظام، لإضعاف الأداء الحكومي المدني وتقييد سلطات الوزراء وفرض رقابة من أجهزة مختلفة عليهم، وتعظيم الاعتماد على تلك الأجهزة ذات الطابع النظامي. وأضاف المصدر أن هذه الرؤية تجلت في أنه مقابل ضم ممثلي المخابرات والرقابة الإدارية إلى هذه اللجنة، فقد تم تخفيض عدد ممثلي الجهات الحكومية المدنية إلى شخصين اثنين فقط، هما ممثل لوزارة التخطيط وآخر عن الوزارة أو المحافظة التي يدخل المشروع، محل الدراسة أو إعادة الهيكلة، في نطاق عملها. واستبعد القرار الأخير ممثلي أجهزة الدولة المتعاقدة والمسؤولة عن تنفيذ تلك المشاريع، ما يعني ضمنياً وواقعياً إسناد التعاقدات والتنفيذ إلى الجيش أو المخابرات أو الرقابة. وتضم هذه اللجنة، إلى جانب الممثلين المباشرين للجهات النظامية الثلاث، كلاً من رئيس الوزراء السابق شريف إسماعيل، الذي حل بدلاً من محلب في كل اللجان الرئاسية، ومستشار السيسي لشؤون مكافحة الفساد اللواء محمد عمر هيبة، ومستشار السيسي لشؤون التخطيط العمراني اللواء أمير سيد أحمد، وممثلين لرئاسة الجمهورية.
وأوضح المصدر أن السبب المباشر وراء إعادة تشكيل اللجنة الآن هو استغلال الأفضلية التي منحها السيسي للجيش والمخابرات والرقابة الإدارية في قانون التعاقدات الحكومية، الذي صدر في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، ودخل حيز التنفيذ في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، والذي يسمح لكل من وزارات الدفاع والإنتاج الحربي والداخلية، وأجهزتها جميعاً، في "حالات الضرورة التي يقتضيها الأمن القومي" التعاقد بطريقة المناقصة المحدودة، أو المناقصة على مرحلتين، أو الممارسة المحدودة أو الاتفاق المباشر. ويعتبر هذا النص تكريساً وتقنيناً لوضع غير دستوري قائم على التمييز الإيجابي لتلك الوزارات وأجهزتها على باقي الوزارات والشركات، وخصوصاً أن تعبير "الأمن القومي" يبلغ من الاتساع ما يُمكن كل وزارة من تفسيره كما تشاء، وما يضمن لها أن تُدرج تحته كل تعاقداتها. علماً أن المشروع يضمن "سرية استثنائية" لخطط البيع والشراء المندرجة تحت اعتبار "الأمن القومي" بعدم نشر أي معلومات عنها على بوابة الخدمات الحكومية الإلكترونية.
وذكر المصدر أنه بسبب تضمن القانون مواد تسمح للمرة الأولى بتعاقد جميع الهيئات والإدارات الحكومية مع بعضها البعض، بالأمر المباشر، دون اتباع المناقصات أو المزايدات، أو حتى الممارسات المحدودة، فإن هذا يتيح أفضلية استثنائية لأجهزة الجيش والمخابرات والرقابة التي تمارس أنشطة هندسية وتجارية، للسيطرة على المشاريع الحكومية المختلفة، من دون منافسة من رجال الأعمال والشركات المحلية والأجنبية. وكشف المصدر عن اتجاه النظام إلى "عقد شراكات جديدة بين الأجهزة التابعة لتلك الجهات النظامية، وصندوق مصر السيادي، الذي صدر قانون بإنشائه في أغسطس/ آب 2018، لاستثمار الأصول غير المستغلة، ونقلها من مجال المال العام إلى مجال المال الخاص بالدولة القابل للاستثمار بالبيع أو التأجير"، والذي لم ينجح حتى الآن في عقد اتفاقات طويلة الأجل مع مستثمرين عرب أو غربيين. وأشار إلى أن "المشاريع القومية المتعثرة، أو المهملة، أو حتى الناجحة، يمكن نقل مسؤوليتها إلى هذه الشراكات الجديدة، من خلال عمل اللجنة نفسها، والاستفادة من المادة 19 من قانون الصندوق السيادي التي تنص على إعفاء المعاملات البينية للصندوق والكيانات المملوكة له من الضرائب والرسوم، باستثناء توزيعات الأرباح".
وسبق لـ"العربي الجديد" أن كشفت، الصيف الماضي، عن تشكيل لجنة برئاسة شريف إسماعيل أيضاً لإعداد قائمة كاملة بالأصول الحكومية غير المستغلة، تمهيداً لضمها بقرار جمهوري للصندوق السيادي الجديد، وأن تعمل اللجنة على تطوير عمل لجنة عليا سابقة كانت مشكلة برئاسة مدير المخابرات الحالي عباس كامل منذ عامين لحصر الأصول غير المستغلة. وتبين من عملها أن معظم الأملاك غير المستغلة عبارة عن عقارات وأراض فضاء، كانت تحت إدارة الشركات القابضة والشركات التابعة لها، فضلاً عن مصانع ومعامل تم تكهينها (إخراجها من الخدمة) منذ بدء برنامج خصخصة القطاع العام في تسعينيات القرن الماضي. ويتقاطع عمل اللجنتان، المختصة بحصر الأصول غير المستغلة مع المختصة بدراسة مشاريع الدولة المتعثرة، في بعض الاختصاصات، مثل اختيار الأراضي والمشاريع القابلة للاستثمار وتقييم أسباب تعثر الاستفادة منها سابقاً والتوصية باستغلالها مستقبلاً وفقاً لقانون التعاقدات الحكومية الذي استند إليه السيسي في قراره الأخير لإعادة تشكيل لجنة المشاريع المتعثرة.
وكان ضيق صدر النظام الحاكم بقانون المزايدات والمناقصات الصادر عام 1998 أحد أسباب إصدار السيسي قانون التعاقدات الحكومية، هرباً من تقييد القانون السابق لسلطة الجهات الحكومية المختلفة في التعاقد بالأمر المباشر مع مستثمرين أو شركات مقاولات أو شركات خدمات بعينها، حيث كان الجهاز المركزي للمحاسبات، خصوصاً في عهد رئيسه السابق المحبوس حالياً هشام جنينة، يسجل ملاحظات متكررة ببطلان البيوع وصفقات الشراء التي تعقدها الجهات الحكومية، بما فيها الأجهزة السيادية والأمنية، بالأمر المباشر من دون اتباع المناقصة أو المزايدة، بل وأحال الجهاز بعض تلك الحالات للنيابة العامة للتحقيق في شبهات فساد. وزعمت الحكومة أن القانون الجديد صدر استجابة لشروط الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لضمان مزيد من الشفافية في التعاقدات الحكومية، لكن الحقيقة أن القانون يتضمن قيوداً على العروض التي يتقدم بها المستثمرون، في الوقت الذي يحرر الأجهزة العسكرية والسيادية، الممارِسة لنشاط الاستثمار، من أي قيود أو رقابة.