وتراجعت خلال الأسابيع الماضية علاقات السعودية المتوترة أصلاً مع الكونغرس الأميركي، بما في ذلك أعضاء الحزب الجمهوري، الذين اتهم بعضهم الرياض بالإسهام في تفاقم حالة عدم الاستقرار في سوق النفط، بعدما كثّفت المملكة إنتاج النفط وخفّضت الأسعار إثر انهيار المحادثات مع روسيا. وحذّر بعض أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، في أواخر شهر مارس/ آذار الماضي، من أنه إذا لم تُغيّر السعودية مسارها، فإنها تخاطر بفقدان الدعم الدفاعي الأميركي، وبمواجهة مجموعةٍ من الخطوات العقابية.
ولم تتوقف التهديدات الأميركية عند ذلك الحد، بل إن ترامب نفسه، لجأ خلال اتصال هاتفي مع بن سلمان في 2 إبريل/ نيسان الماضي، إلى التلويح بسحب قوات بلاده العسكرية من السعودية في حال عدم بدء منظمة "أوبك" في خفض مستوى الإنتاج النفطي وإنهاء الحرب النفطية، وفق تقرير لوكالة "رويترز" نشرته يوم الخميس الماضي. ونقلت الوكالة عمّن قالت إنه "مصدر أميركي أطلعه مسؤولون كبار في الإدارة على ما دار من حوار"، أن ولي العهد بوغت بالتهديد، حتى إنه أمر مساعديه بالخروج من الغرفة لكي يتمكن من مواصلة الحوار سرّاً. كذلك نقلت الوكالة عن مسؤولٍ أميركي رفيع، قوله إن الإدارة أبلغت القادة السعوديين أنه إذا لم يُخفَض الإنتاج "فلن يكون هناك سبيل لمنع الكونغرس من فرض قيود قد تؤدي إلى سحب القوات الأميركية". وقال المصدر المطلع على ما دار في المكالمة، وفق "رويترز"، إن ترامب قال للأمير السعودي إنه سيتخلى عنهم في المرة التالية التي يدعم فيها الكونغرس اقتراحاً لإنهاء دفاع واشنطن عن المملكة.
وقبل أسبوع من مكالمة ترامب مع بن سلمان، كان السيناتوران الجمهوريان، كيفن كريمر ودان ساليفان، قد اقترحا تشريعاً لسحب القوات الأميركية كلّها وصواريخ "باتريوت" ونظم الدفاع المضاد للصواريخ من المملكة، ما لم تخفض الرياض إنتاج النفط. وكان هذا الاقتراح يلقى تأييداً متزايداً، وسط غضبٍ في الكونغرس بسبب حرب أسعار النفط التي نشبت بين السعودية وروسيا، وفق "رويترز". وفي يوم 16 مارس/ آذار الماضي، كان كريمر واحداً من 13 عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ، بعثوا برسالةٍ إلى ولي العهد السعودي يُذكرونه فيها باعتماد المملكة الاستراتيجي على واشنطن. وفي 18 مارس، أجرت هذه المجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ، ومنهم السيناتور تيد كروز، مكالمة هاتفية مع السفيرة السعودية في واشنطن ريما بنت بندر بن سلطان. ووصف كريمر لـ"رويترز" الحوار بأنه كان "قاسياً"، إذ شرح كل عضو من أعضاء مجلس الشيوخ الضرر الذي لحق بصناعة النفط في ولايته.
وعلى الرغم من استبعاد إمكانية تطبيق ترامب لتهديداته، بسبب استجابة بن سلمان لطلباته، وفي ظلّ التوترات الإقليمية بين الولايات المتحدة وإيران، إلا أن وصول التهديدات الموجهة إلى السعودية إلى مستوى سحب القوات الأميركية ورفع الحماية عنها، يمثل بعداً جديداً في سلسلة الفشل الدبلوماسي المستمر لبن سلمان منذ صعوده إلى المشهد السياسي عقب تولي والده مقاليد حكم البلاد مطلع عام 2015. ويعد هذا التهديد الذي صدر من أعلى سلطةٍ أميركية، البيت الأبيض، أول تهديد من هذا المستوى يُوجه إلى السعودية منذ اتفاق الحماية الأميركية للمملكة الذي عُرف باسم "اتفاق كوينسي"، الذي تمّ بين الملك عبد العزيز آل سعود، موحد البلاد ومؤسسها، والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت عام 1945، وينص على حماية الولايات المتحدة للسعودية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، مقابل إمداد السعودية لأميركا بالنفط الرخيص.
وعلى الرغم من أن العلاقات السعودية - الأميركية تعرضت للتوتر أكثر من مرة بعد إعلان "حظر النفط" عام 1973، وتوقيع الدول الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، إلا أن السعودية بقيت تتمتع بأهمية كبيرة لدى صنّاع القرار في الولايات المتحدة حتى صعود بن سلمان لولاية العهد، وجنوح السياسة الخارجية السعودية نحو التصعيد المستمر مع حلفائها وأعدائها على حدٍّ سواء.
لكن بن سلمان، خلال سنوات قليلة فقط، حوّل السعودية من كونها حليفاً مهماً للولايات المتحدة وشريكاً أساسياً في المنطقة، إلى حليفٍ للسياسات الانتخابية لترامب دون غيره، وهو ما جعل ولي العهد يصر على استمرار الحرب في اليمن، على الرغم من عدم وجود أفق لانتصار عسكري، وفرضه حصاراً على دولة قطر، ومن ثم تصعيده مع القوى الإقليمية الأخرى مثل إيران وتركيا، وهو ما سبّب هجمات صاروخية على الحقول النفطية شرقيّ المملكة، كادت أن تؤدي إلى تقويض الصناعة النفطية في بلاده.
ومثّلت جريمة اغتيال الصحافي المعارض جمال خاشقجي في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 في إسطنبول، ذروة النجاح المؤقت للتحالف بين بن سلمان وترامب. فعلى الرغم من إدانة المؤسسات الأميركية للاغتيال وتحميلها وليّ العهد المسؤولية، وتحركات الكونغرس لإصدار قوانين تحاسب القتلة، ألقى ترامب بثقله للتستر على بن سلمان وحمايته من الآثار المترتبة عن قتل صحافي وتقطيعه داخل قنصلية بلاده في الخارج.
وعلى الرغم من إحساس بن سلمان بتجاوز قضية خاشقجي، إلا أن هذه الحادثة زعزعت ثقة حلفائه به حول العالم، وأكّدت صورته كثقلٍ على أي حليف، وخصوصاً الأميركي، بسبب تصرفاته الانفعالية في السياسة الخارجية، وسوء علاقاته مع الكثير من جيرانه، وهو أمر لم يسمح الملوك السابقون في السعودية به، على الرغم من وجود توترات سابقة داخل منظومة مجلس التعاون الخليجي. وأدى تحالف بن سلمان مع مشاريع ترامب الانتخابية، إلى تأييده الضمني لما عرف بـ"صفقة القرن"، التي تهدف إلى إنهاء القضية الفلسطينية.
وأتت "الحرب النفطية" لتؤكد سوء خيارات بن سلمان، وعواقب تحالفه مع مشاريع ترامب الانتخابية، إذ أدت الأزمة الاقتصادية الأميركية التي سببها وباء كورونا، وانخفاض أسعار النفط العالمية، إلى انهيار شركات النفط الصخري وتأثيرها في أسواق الأسهم وفقدان الكثير من الأميركيين وظائفهم، وهو ما يعيق حملة الرئيس الأميركي في انتخابات الرئاسة، فسارع للهجوم على أقرب حليفٍ له وتقديمه كقربان لخطاباته الانتخابية. وحتى إن نجح ترامب في تمديد رئاسته لأربع سنوات أخرى، فإن بن سلمان يعيش في محيط معادٍ له ومتخوف منه في أحسن الأحوال، ووسط قوى إقليمية تتربص به، وحلفاء أوروبيين فقدوا ثقتهم به، بسبب مغامراته السياسية، ومؤسسات أميركية باتت ترى في تحالفها معه عبئاً عليها.