ثقب بريكست الأسود: دروس للبريطانيين والأوروبيين

29 مارس 2019
وجب على بريطانيا معرفة شكل بريكست قبل الانسحاب(دان كيتوود/Getty)
+ الخط -
في مثل هذا اليوم قبل عامين، طلبت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي رسمياً الخروج من الاتحاد الأوروبي تلبية لنتيجة استفتاء شعبي، جرى في صيف العام 2016، دعم فيه 52 في المائة من البريطانيين الخروج من الاتحاد، الذي بات يعرف اختصاراً ببريكست. سادت حينها الاحتفالات في صفوف معارضي أوروبا في بريطانيا، ورسم قادة معسكرهم مستقبلاً وردياً لبريطانيا بعد بريكست، تحصل فيه على كل شيء. لكن سرعان ما بدأت تتضح الهوة الشاسعة بين الوعود وبين الواقع. مرّ العامان اللذان كان يفترض ببريطانيا أن تنجز خلالهما اتفاقاً يحقق لها خروجاً من الكتلة الأوروبية، ويفتح أمامها أبواب التجارة الدولية، ويبقي على وصولها إلى الأسواق الأوروبية، بأقل قدر ممكن من الالتزامات، من دون أي اتفاق.

وبدل أن تتحول بريطانيا إلى أول دولة تخرج من الاتحاد الأوروبي باتفاق واضح ويسير، وجدت نفسها في مأزق سياسي غير مسبوق، وانقسامات حزبية عميقة قد تطيح بأكبر حزبين بريطانيين هيمنا على 10 داوننغ ستريت طوال القرن العشرين، وبصفقة دون المطلوب أطاح بها البرلمان مرتين، بنتائج تعد الأسوأ في تاريخ الديمقراطية البريطانية. حتى أن رئيس الغرفة البريطانية للتجارة، وهي إحدى أكبر جماعات الضغط في مجال الأعمال، آدام مارشال، طالب السياسيين البريطانيين، أمس الخميس، بالتوقف "عن مطاردة أقواس قزح"، وتجنب بريكست من دون اتفاق، والذي قد يقع بسبب عجز بريطانيا عن حسم أمرها حول شكل بريكست الذي تريده. بل وصف الوضع الحالي أيضاً بأنه "ثقب بريكست الأسود" الذي يلحق أضراراً متتابعة بالاقتصاد البريطاني، والتي ستتفاقم في حال عدم الاتفاق.

الخبرة التفاوضية الأوروبية

ولربما كانت بريطانيا قد قادت نفسها إلى هذا المأزق، إذ وجب عليها معرفة شكل بريكست قبل طلب الانسحاب قبل عامين. ولربما كانت الخبرة التفاوضية الأوروبية هي التي وضعت لندن في هذه الزاوية، إذ إن أية دولة أوروبية تسعى لمغادرة الكتلة الأوروبية الآن تدرك أن دخول الاتحاد ليس مثل الخروج منه. وبقدر ما حملت مجريات أشهر المفاوضات الطويلة بين لندن وبروكسل دروساً عدة للبريطانيين حول صعوبة الخروج من الاتحاد الأوروبي، فإنها أيضاً لم تخل من الدروس والخلاصات على الصعيد الأوروبي، تحديداً للدول الأوروبية الأخرى التي تطمح للخروج من الاتحاد الأوروبي؛ فقد كشف بريكست عن أن العملية ليست بالسهولة التي يزعمها الشعبويون الأوروبيون سواء على ضفتي اليمين أو اليسار السياسي. فعدا عن أن الدرس البريطاني يشدد على أهمية التوافق الداخلي على مسار هذا الخروج، قبل طرق بابه، تشكل الخسائر الاقتصادية رادعاً آخر أمام راغبيه. فالاقتصاد البريطاني، وهو من بين الأقوى في العالم، تلقى ضربات موجعة قد تكون فاتحة خسائر أكبر، تصل إلى تراجع حجمه 10 في المائة في حال الخروج من دون اتفاق. وبينما قد تستطيع بريطانيا تحمل نفقات فصل روابطها الاقتصادية بالقارة الأوروبية، لا تمتلك الدول الأوروبية الأخرى، التي تسود فيها مثل هذه النزعات، القوة أو المرونة الاقتصادية الكافية لتحمل مثل هذه الخسائر. كما أن مؤسسات الاتحاد الأوروبي أثبتت مهارة تفاوضية، أو ربما مجرد تصلب في المواقف منحها اليد الطولى في المفاوضات البريطانية. فبينما تحركت الحكومة البريطانية من دون دعم داخلي، لم يتحرك المفاوضون الأوروبيون خارج التفويض والإجماع الأوروبيين أبداً. وبينما وضعت بريطانيا سقف توقعات غير واقعي، كان الموقف الأوروبي عملياً أكثر. وبينما ركزت الاستراتيجية البريطانية على حماية حزب المحافظين، رفض الاتحاد الأوروبي التخلي عن دعم مصالح أي من دوله، وأرسل رسالة مفادها أن دخول الاتحاد ليس مثل الخروج منه.

ماكرون: آن أوان التجديد

حتى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان واضحاً خلال الشهر الحالي عندما تحدث عن الموضوع، قائلاً في مقال رأي، في صحيفة "الغارديان" بعنوان "عزيزتي أوروبا، بريكست درس لنا جميعاً والآن آن أوان التجديد"، إن بريكست يمثل واقع المشكلة التي فشلت أوروبا في مواجهتها كما فشلت في الاستجابة لرغبات مواطنيها في الحصول على حماية كافية في مواجهة أزمات العصر الحديث. واقترح ماكرون أن يتم إدخال تطويرات وتحديثات على بنية الاتحاد الأوروبي عبر التركيز على 3 محاور، هي الدفاع عن الحريات العامة والتعبير عن الرأي علاوة على الدفاع عن القارة الأوروبية ككل وهويتها، وأخيراً استعادة روح التقدم، إذ إن أوروبا ليست من قوى الدرجة الثانية على الساحة العالمية ولكنها قوة عظمى.



مسلسل مثير

وعكست صحيفة "دي تسايت" الألمانية الرؤية الأوروبية لما يجري في البرلمان البريطاني من تخبط إزاء بريكست بمقارنته بمسلسل تلفزيوني مليء بالإثارة. وقالت: "إن أغلبية المسلسلات تصبح مثيرة للملل بعد جزء ثانٍ أو ثالث، ولكن بريكست أمر مختلف. كلما شاهدته لفترة أطول، تزداد الحبكة إثارة. كان يوم أمس (الأربعاء الماضي) أكثرها إثارة حتى الآن: بداية تعرض رئيسة الوزراء المكروهة الاستقالة، ومن ثم يسحب النواب المبادرة، ويبدو أن كل المسار بدأ بالتحول". وأضافت: "لكن انتظروا... في النهاية يبدو أن في إمكانهم الاتفاق، على لا شيء".

وكان آخر فصول المبارزات البرلمانية يوم الأربعاء، عندما أجمع النواب البريطانيون على ألا يتفقوا على أي من الخيارات المطروحة أمامهم، والتي شملت أشكالاً مختلفة من بريكست مخفف، والتي تضمن عضوية السوق الأوروبية المشتركة أو الاتحاد الجمركي أو كليهما. كما شملت أيضاً خيارات مبنية على قواعد منظمة التجارة الدولية ويدعمها متشددو بريكست، إضافة إلى سحب طلب الانسحاب من الاتحاد والاستفتاء الثاني. ويضاف إلى سجل الرفض البرلماني رفض لاتفاق بريكست الذي أبرمته رئيسة الوزراء تيريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي نهاية العام الماضي، ورفض للخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق. بينما لا يزال الحديث عن البقاء في الاتحاد من المحظورات.

سابقة في السياسة البريطانية

كما أن جلسة التصويت التي شهدها البرلمان الأربعاء كانت سابقة في تاريخ السياسة البريطانية، والتي كانت آخر حلقات المواجهة بين البرلمان والحكومة، عندما سحب ممثلو الشعب البريطاني سلطة تحديد جدول أعمال البرلمان من الحكومة. وبالرغم من عدم انفراج الأزمة، وتبلور أغلبية برلمانية لصالح خيار بديل للاتفاق المطروح، قال أوليفر ليتوين، النائب عن حزب المحافظين والذي قاد جهود البرلمان للتمرد على الحكومة البريطانية، أمس الخميس، لهيئة الإذاعة البريطانية، إن الأمر كان متوقعاً، مضيفاً أن المرحلة التالية من التصويت، والمقررة يوم الإثنين الأول من إبريل/نيسان المقبل، ستكون أكثر حسماً. وما ساهم في تشتيت أصوات البرلمانيين مناورة سياسية أقدمت عليها ماي قبل ساعتين من بدء جلسة التصويت الأربعاء، عندما اجتمعت بجميع نواب حزبها ووعدتهم بالاستقالة من منصبها في رئاسة الحزب والحكومة في حال تمكنت خطتها من تجاوز الامتحان البرلماني بدعمهم. وبالرغم من أن المتحدث باسم البرلمان البريطاني، جون بيركو، كان رفض منح الحكومة فرصة أخرى للتصويت عليها، ما لم تشمل تغييرات أساسية، تناور الحكومة بالتفاف القانوني على قرار بيركو، وتقدمت بطلب التصويت الثالث على الصفقة اليوم الجمعة.

وكان الاتحاد الأوروبي قد منح بريطانيا تمديداً مشروطاً قصير الأمد لموعد بريكست. ففي حال نجاح خطة ماي، سيكون الموعد البديل في 22 مايو/أيار المقبل، قبل موعد الانتخابات البرلمانية الأوروبية. أما في حال فشلها، فيجب على بريطانيا العودة إلى الاتحاد ببديل قبل 12 إبريل/نيسان المقبل، وإلا فإنها ستخرج من دون اتفاق. وأعرب ليتوين عن أمله في أن تكون جلسة الإثنين أكثر وضوحاً، بالقول: "سيصوت النواب بناء على نتيجة ما حدث في المرة الأخيرة. كما أن أمراً آخر سيكون قد حدث، وهو أن رئيسة الوزراء ستكون قد نجحت في تمرير صفقتها يوم الجمعة، وفي تلك الحالة لن تكون هناك ضرورة (للتصويت)، أما في حال فشلها، فأعتقد أن النواب سيقتنعون بأنها لن تنجح قبل 12 إبريل، وأعتقد أن العديد من المحافظين الذين لم يصوتوا لصالح أي من الخيارات، لأنهم فضلوا الانتظار حتى تتاح لهم فرصة أخيرة للتصويت على صفقة رئيسة الوزراء بدلاً من إلزام أنفسهم بأي أمر آخر، قد يعدلون عن رأيهم ويقولون: حسناً سنختار من بين هذه البدائل".

وقامت استراتيجية ماي، منذ اعتمادها خطة تشيكرز في يوليو/تموز 2017، والتي تشكل أساس اتفاق بريكست الحالي، على أن خطتها هي طريق بريكست الوحيد، وأن البديل هو إما الخروج من دون اتفاق، أو عدم الخروج من الاتحاد الأوروبي. وراهنت ماي طوال العامين الماضيين على أن خوف مؤيدي بريكست مخفف من الأول ومؤيدي بريكست المشدد من الثاني سيدفعهم إلى تأييد صفقتها. ولكن هذا الخوف، أو ربما عدمه، أصاب البرلمان بالشلل. بل حتى وعندما بدأت هذه الاستراتيجية بدفع نواب حزبها من متشددي بريكست، الذين صوتوا ضد الصفقة إلى العدول عن مواقفهم لاعتبارها "أحلى الأمرّين"، جاء التمرد من جانب الحزب الاتحادي الديمقراطي الأيرلندي، والذي يضمن لحكومة ماي الأغلبية البرلمانية، والتي كان حزب المحافظين قد فقدها بعد مقامرة انتخابات العام 2017. ويرى الحزب الأيرلندي في خطة المساندة التي يشملها الاتفاق خطراً على وحدة الأراضي البريطانية، والتي قد تؤدي إلى إبعاد بلفاست عن لندن، وضمها إلى الجمهورية الأيرلندية.

خياران أمام بريطانيا

ويبدو أن خيارات بريطانيا حالياً محصورة بين اثنين: صفقة ماي أو اتحاد جمركي، وهو ما أكده الوزير المحافظ السابق داميان غرين، عندما قال، لهيئة الإذاعة البريطانية أمس الخميس: "إذا أردت صفقة، فالخيار الآن بين صفقة الحكومة أو اتحاد جمركي. فقد هزم خيار الاتحاد الجمركي يوم أمس (الأربعاء) بفارق ثمانية أصوات فقط. هذا الخيار أقل شدة من صفقة الحكومة. وهذا ما يوجَد أمام النواب، حتى أكثرهم تشدداً". ويعني ذلك عملياً، أنه في حال فشل التصويت (إن تم) على خطة ماي اليوم الجمعة، فسينال الاتحاد الجمركي دعماً أكبر يوم الإثنين، وسيكون الخطة البديلة التي ستتجه بها الحكومة البريطانية إلى بروكسل قبل 12 إبريل. وقد يعني ذلك طلب تمديد أطول، ومشاركة بريطانيا في انتخابات البرلمان الأوروبي، لفسح المجال أمام التفاوض من جديد. وكان الاتحاد الأوروبي قد أعرب هذا الأسبوع عن استعداده لتمديد موعد بريكست حتى بداية إبريل 2020، إن تقدمت بريطانيا بهذا الطلب.

إلا أن ماي كانت أعربت مراراً عن رفضها التام للبقاء في اتحاد جمركي مع أوروبا أو تمديد طويل الأمد لبريكست، واصفة هذا الأمر بالخط الأحمر. وعلى الرغم من أنها لم تجد حرجاً في التراجع عن مواقفها سابقاً، إلا أنها قد تضطر للاستقالة من منصبها والدعوة إلى انتخابات عامة. وبالفعل فإن أيام ماي في منصبها باتت معدودة، إذ قد لا تتجاوز الصيف المقبل. ففي حال نجاح صفقتها، فإنها قد تعهدت أمام حزبها بالتخلي عن زعامة الحزب ورئاسة الحكومة وإفساح المجال أمام رؤية مختلفة لقيادة المرحلة التالية من المفاوضات، والتي ستتمحور حول شكل العلاقة التجارية بين لندن وبروكسل.

ولم تقتصر لعنة بريكست على حزب المحافظين الحاكم، بل وصلت إلى زعيم حزب العمال جيريمي كوربن. فقواعد "العمال" تدعم بأغلبيتها العظمى البقاء في الاتحاد الأوروبي، وذلك في موقف يخالف رؤية كوربن المؤيد لبريكست. وعلى الرغم من أن "العمال" لم يكن في الصدارة، إلا أن الانشقاقات في صفوفه وصلت إلى حد استقالة عشرة من نوابه من الحزب، وتشكيلهم كتلة برلمانية مستقلة انضم إليها ثلاثة من مؤيدي الاتحاد من حزب المحافظين. أما تصويت الأربعاء، فشهد تصويت عدد من نوابه ضد التوجيهات الحزبية، واستقالة الوزيرة في حكومة الظل المعارضة، ميلاني أون، لرفضها دعم الاستفتاء الثاني.

أما الجانب الأوروبي، فقد تجاوب مع التصويت بتغريدة من المتحدث باسم رئيس المفوضية الأوروبية مرغاريتيس سكيناس، أمس الخميس، بقوله "سجلت المفوضية نتيجة التصويت الدلالي في مجلس العموم مساء أمس (الأربعاء). يشكل هذا جزءاً من عملية سياسية مستمرة في بريطانيا. عددنا ثمانية لاءات. نريد الآن نعم على الطريق إلى الأمام". وهو ما يعكس الموقف الأوروبي عموماً في الشهور الماضية، والذي أصابه الإرهاق والترقب، بانتظار حسم بريطانيا لأمرها. وبينما تأمل عدد من دول الاتحاد الاستفادة من الأعمال البريطانية الفارة من وطء بريكست، دعا قادة المؤسسات الأوروبية، وكان آخرهم رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، بريطانيا إلى العدول عن رأيها والبقاء في الاتحاد.