رغم مرور ثلاثة عقود على فشل الانقلاب على الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، يتواصل الجدل حول حقيقة ما جرى في أربعة أيام، تصدرت رأس الصفحة الأخيرة في قصة الانهيار السريع، وغير المتوقع للدولة السوفييتية، التي انتهت من الوجود نهاية 1991.
وبعيداً عن الجدل حول الأسباب وكواليس الأيام التي سبقت ورافقت الانقلاب (18 إلى 21 أغسطس/ آب 1991)، فالمؤكد أن فشل الانقلاب دق المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفييتي، وأنهى دوره كإحدى القوتين العظميين في العالم مع الولايات المتحدة، وفتح الباب على مصراعيه لاستقلال الدول التي كانت منضوية في الاتحاد، وخلق خريطة جيوسياسية جديدة، رافقت ولادتها فوضى عارمة وصراعات سياسية وانهيارات اقتصادية وتوترات مجتمعية، وحالة من تضارب مصالح وتوجهات بين تلك الدول، ما زالت تضغط على عصب العلاقات بينها.
أطلق الانقلاب الفاشل العنان لتفكك ما بقي حينها من المؤسسات والأطر الاتحادية المتداعية
بدأ الانقلاب بإعلان سبعة قياديين من قيادة الصف الأول عن تشكيل "لجنة الدولة لحالة الطوارئ" في 18 أغسطس، ضمت في عضويتها وقتها نائب الرئيس غينادي يانايف ووزير الدفاع ديمتري يازوف ووزير الداخلية بوريس بوغو ورئيس جهاز "كي جي بي" فلاديمير كريوتشكوف وآخرين، مع ملاحظة أن غالبيتهم كانوا من مسؤولي الدفاع والأمن. وجاء توقيت الانقلاب، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد قبل يومين من موعد التوقيع على معاهدة تشكيل اتحاد فيدرالي لا مركزي، بين تسع جمهوريات من الاتحاد السوفييتي السابق تحت اسم "اتحاد الدول المستقلة"، بعد أن اختارت ست جمهوريات أخرى، هي البلطيق (أستونيا ولاتفيا وليتوانيا) ومولدوفا وجورجيا وأرمينيا، الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي بشكل كامل، في الاستفتاء الذي أجري في مارس/ آذار من العام ذاته، وصوت فيه أكثر من 70 في المائة من المواطنين السوفييت على المحافظة على الاتحاد.
وكان الهدف المعلن من الانقلاب إعادة عقارب التحولات إلى الوراء، غير أنه أدى إلى مفعول عكسي، إذ أطلق العنان، ودون كوابح، لتفكك ما بقي حينها من المؤسسات والأطر الاتحادية المتداعية. وينقسم الخبراء ومعاصرو الحقبة حول دور غورباتشوف الشخصي في الانقلاب. ويؤكد فريق أن الانقلاب تم بموافقة وتدبير من غورباتشوف من أجل العودة إلى الحكم السوفييتي القوي ولملمة الأوضاع، فأوعز لزملائه "المتشددين" لمصلحة دولة مركزية قوية بتدبير حادثة احتجازه، ومن ثم عودته إلى موسكو على أمل العودة إلى ما كان عليه الحال قبل 1986. وفي المقابل يرى فريق آخر أن غورباتشوف أراد التخلص من خصومه "المتشددين" من أجل مواصلة مشروعه الإصلاحي الذي مات بعد أقل من أربعة أشهر. وفي كلا الحالتين فإن القيادة السوفييتية أخطأت في تقدير ردة فعل الجماهير الغاضبة، بسبب تردي الأوضاع المعيشية والأمنية، وتأثير سياسات الانفتاح و"البروسترويكا" وقدرة الصحافة الحرة في التأثير على مزاج المواطنين.
الأزمة تتدحرج
ومن المؤكد أن الانقلاب الذي قامت به "لجنة الدولة لحالة الطوارئ" لم يكن بداية للأزمة التي أودت بالاتحاد السوفييتي. فالأزمة برزت إلى السطح منذ تولي غورباتشوف عام 1985 منصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي، علماً بأنها أزمة موروثة من عهود سابقة، إلى أن وصلت إلى طريق مسدود، بفشل السياسة التي اعتمدها غورباتشوف وفريقه تحت شعاري "الغلاسنوست" و"البروسترويكا" (الانفتاح والشفافية في المؤسسات الحكومية، وإعادة البناء)، لإصلاح الاقتصاد والحدّ من المركزية المفرطة في التخطيط والإدارة.
أليكسي كودرين: انهيار الاتحاد السوفييتي كان محدداً سلفاً خلال العقد الأخير قبل زواله
ومعلوم أن غورباتشوف أطلق شعار "الغلاسنوست" بعد فترة وجيزة من توليه السلطة، كمهمة تمهد لإجراء إصلاحات جذرية في الاقتصاد السوفييتي لتحسين أدائه وزيادة وتحسين إنتاجيته، بتخليصه من وطأة البيروقراطية والمركزية الشديدة التي كان يرزح تحتها. لكن عملياً لم يتم تحقيق نتائج كبيرة على أرض الواقع تؤسس قاعدة انطلاق نحو المرحلة التالية. ورغم ذلك أعلن غورباتشوف عام 1987 عن الانتقال إلى مرحلة "البروسترويكا" (إعادة البناء) للبدء في تنفيذ سلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، دون تقييم ما تم إنجازه خلال عامين من "الغلاسنوست" وإعادة توجيه دفة خطط العمل لتلافي الأخطاء التي وقعت، فكانت النتيجة تعميق الركود الاقتصادي وزيادة المشاكل السياسية، وتفشي حالة من الفوضى في مؤسسات الدولة، وتنامي النقمة في صفوف فئات واسعة من شعوب الاتحاد السوفييتي.
أسباب الفشل
تتضارب الآراء حول أسباب فشل "الغلاسنوست" و"البروسترويكا" وانهيار الاتحاد السوفييتي نتيجة لذلك. رئيس هيئة الرقابة والتفتيش الروسية أليكسي كودرين أدلى بتصريح، لصحيفة "كوميرسانت" الروسية في يوليو/ تموز الماضي، اعتبر فيه أن "انهيار الاتحاد السوفييتي كان محدداً سلفاً خلال العقد الأخير قبل زواله". وفسَّر ما ذهب إليه بالقول: "أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي هو التأخر في تنفيذ الإصلاحات، وإعادة هيكلة الاقتصاد... الاتحاد لم يكن مستعداً لإصلاح اقتصاده، ما جعله يفقد فعاليته ببساطة كل عام". ويشاطر أستاذ كلية الاقتصاد في جامعة بيلاروسيا الحكومية فاليري باينيف، كوردين رأيه، ويضع ذلك في إطار مفارقة مُرّة تصف ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية في الاتحاد السوفييتي. ويشير، في حوار مع الصحيفة ذاتها، إلى أنه "لسوء الحظ، كان انهيار الاتحاد السوفييتي أمراً لا مفر منه... بدء من ثمانينيات القرن الماضي، لسوء الحظ انقسم الناس إلى فئتين: البعض يحلم بالنجوم، والبعض الآخر يحلم بالعدس".
وفي الإطار ذاته، قدم مدير مركز البحوث الاجتماعية والسياسية في جامعة بيلاروسيا الحكومية ديفيد روتمان إجابة أكثر تحديداً في تفسير سبب تقهقر الاتحاد السوفييتي اقتصادياً وصولاً إلى الانهيار. ويقول: "دعونا لا ننسى أن الحرب الباردة كانت على قدم وساق، ولقد اضطررنا للرد على هذه التحديات حتى لا نتخلف ونخسر. لسوء الحظ، كانت دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة على اتصال وثيق ببعضها البعض، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. لم نتمكن من الصمود أمام هذه المنافسة، التي أثرت بشكل مباشر على الاقتصاد، وأضعفت إمكاناتنا، بما في ذلك في مجال الإدارة العامة. تبين أن السلطات غير مستعدة للاستجابة بشكل مناسب للعديد من العمليات، والتي بفضل حشو المعلومات المدمر بدأت في التأثير على المجتمع في الجمهوريات المختلفة".
فشلت غالبية الدول، بما فيها روسيا، في إقامة نظام سياسي تعددي وديمقراطي
على النقيض من ذلك، يعتقد الكثير من الخبراء في الشأن السوفييتي أن الانهيار لم يكن حتمياً، وأن الإصلاحات التي دعا إليها غورباتشوف كان يمكن لها أن تنجح، لولا الأخطاء الكبيرة التي وقعت خلال التطبيق. كذلك يشير خبراء إلى أن الغرب رفض دعم خطة الزعيم السوفييتي بالأموال اللازمة لبناء اقتصاد السوق، والتي قدرت حينها بنحو 150 مليار دولار، فضلاً عن عدم وجود دراية عند المسؤولين السوفييت بآليات الاقتصاد الحر، ما جعلهم يتخبطون لاحقاً، لتصل روسيا إلى ما نشهده اليوم من رأسمالية وحشية مشوهة، وبنية مجتمعية أقرب إلى نموذج أميركا اللاتينية، حيث الفروق الشاسعة في الدخل بين الشريحة الأكثر ثروة والفقراء المسحوقين. وربما وجه تراجع أسعار النفط إلى أدنى مستوياته ضربة كبيرة لمشروع الدولة السوفييتية، ليفتح على مرحلة انتهاء حقبة الرخاء في عهد ليونيد بريجنيف، التي ترافقت مع زيادة الدعم الاجتماعي للمواطنين مدفوعاً بقفزة النفط بعد حرب 1973، والتي يحن إليها كل من عاصرها رغم الركود السياسي الذي رافقها والنكات حول بريجنيف العاجز وغير القادر على الحركة من دون مساعدة.
انفجار الأزمة
وكان سبق الانقلاب الفاشل، عام 1991، بعام واحد، إقرار نواب شعوب روسيا الاتحادية (السوفييتية في ذلك الوقت) ما سمي "إعلان سيادة الدولة الروسية الاتحادية"، وهو ما أشعل سباقاً محموماً مع البرلمانات الأخرى في دول الاتحاد السابق لإصدار إعلانات مشابهة، يصنفها كثير من الباحثين والخبراء بأنها البداية الفعلية لتفكك الاتحاد السوفييتي. وكشفت الإعلانات المذكورة عن معضلة أساسية عانى منها الاتحاد السوفييتي، لا تقل خطورة وأهمية عن الركود والتراجع الاقتصادي، وهي فشل الاتحاد على مدار 70 سنة في حل مسألة القوميات. ويضاف إلى هذين العنصرين عنصر مركب يتمثل في المركزية الشديدة وغياب الديمقراطية ومحاولات أدلجة المجتمع وقولبته، وتغييب حوافز الإبداع. وبتضافر هذه العوامل مجتمعة فشلت مساعي تهيئة الظروف المؤاتية لنجاح عملية التحول الديمقراطي والإصلاح الاقتصادي، فانفجرت الأزمة الداخلية.
الموروث يلقي بثقله
اليوم، ورغم مرور 30 عاماً على انهيار الاتحاد السوفييتي ما زالت الجمهوريات التي استقلت عنه تحمل على كاهلها تركة ثقيلة. فغالبية هذه الدول، بما فيها روسيا، فشلت في إقامة نظام سياسي تعددي وديمقراطي يأخذ بالتداول السلمي للسلطة، بل تستشري في الكثير منها آلية التوريث والفردية والاستبداد والفساد، وما زالت مؤسساتها تعاني من خلل بنيوي وغير مستقرة، وتعاني من مشاكل اقتصادية مزمنة. كما تبدو غالبيتها غير قادرة على احتواء التناقضات القومية الداخلية، وتتسم العلاقات بين كثير من هذه الدول بالعدائية، على سبيل المثال لا الحصر روسيا وأوكرانيا، وروسيا وجورجيا، وأرمينيا وأذربيجان... إلخ.
يحذر معارضون من أن زمن القمع السياسي الذي أسس له ديرجينسكي عاد بقوة في روسيا المعاصرة
ولعل ما سبق يؤجج مشاعر الحنين للحقبة السوفييتية لدى فئات واسعة من شعوب الاتحاد السابق، لا سيما في أوساط من عاصروا تلك الحقبة. وللمفارقة فإن الخطاب الرسمي السياسي والإيديولوجي لبعض حكومات دول الاتحاد السوفييتي السابق يحفل بعبارات الحنين ذاته، وهو ما عبَّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً في العديد من خطاباته وتصريحاته. لكن حنين بوتين للزمن السوفييتي ينطلق من زاوية الحنين للقوة والأمجاد الإمبراطورية.
أيديولوجية ضائعة بين تمثالين
وبعد 30 عاماً على الانقلاب الذي فتح على انهيار الدولة السوفييتية، ما زال تمثال فلاديمير لينين في ساحة أوكتيابرسكايا، في بداية أطول شارع في مدن أوروبا يحمل اسمه، يراقب تغيرات المدينة الهائلة، عبر إطلالته عن بعد على مركز موسكو المالي بناطحات السحاب المميزة في "قلعة الاشتراكية" العالمية، التي باتت تنافس عواصم الغرب بعدد أصحاب المليارات. وفي حين تتجمد قبضة يد "أيقونة الشيوعيين" اليسرى من دون حراك، رغم تمدد رموز الرأسمالية، تشير يده اليمنى باتجاه ساحة لوبيانكا (ديرجينسكايا سابقاً) التي ما زالت فارغة، بانتظار حسم قرار بعودة تمثال فيلكس ديرجينسكي (1877 ــ 1926) مؤسس "لجنة الطوارئ في عموم روسيا" في 1922، و"فارس السيف والترس"، شعار جهاز الأمن الفيدرالي الروسي الحالي، والأب الحقيقي لأجهزة الأمن والاستخبارات السوفييتية، ولاحقاً الروسية. ومؤسس اللجنة، التي عملت من أجل نشر أفكار الثورة البلشفية بقوة السلاح، من المتحمسين للثورة. وهي اتهمت لاحقاً بتهجير ملايين الروس من قراهم ومدنهم إلى سيبيريا، والقيام بإعدامات جماعية، وحملة القمع البوليسي للدولة الشمولية ضد المواطنين.
وفي حين يدرك أنصار لينين أن العودة إلى الحياة السوفييتية مستحيلة، فإن الحنين إلى زمن القبضة الحديدية والانضباط يدفع آخرين إلى المطالبة بعودة تمثال ديرجينسكي "المعلم الأول" للرئيس الحالي فلاديمير بوتين، الذي غادر ألمانيا متجرعاً طعم الهزيمة قبل نحو ثلاثة عقود إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، وبات يحكم الكرملين الواقع بين الساحتين بتمثال قائم، لكن عودة عصره مستحيلة، وآخر اقتلعه المواطنون الغاضبون تزامناً مع فشل انقلاب "لجنة الطوارئ" الجديدة في أغسطس 1991. لكن معارضين يحذرون من أن زمن القمع السياسي الذي أسس له ديرجينسكي عاد بقوة في روسيا المعاصرة، مع فارق بأن مصير أي انقلاب بات محكوماً بالفشل، بعد تجربتين، أدى نجاح الأولى إلى بناء دولة السوفييت وانهيار الإمبراطورية ومجاعات ومآسٍ لعقود، فيما تسبب فشل الانقلاب الثاني في صعود حيتان المال والأوليغارشيين على حساب قوت المواطنين ومستقبلهم وانهيار مؤسسات الدولة، وموجة نهب ببرامج الخصخصة، وزيادة أعداد الفقراء وارتفاع الجريمة في سنوات تسعينيات القرن الماضي.
وأخيراً، فقد فتح فشل الانقلاب على انتهاء الحقبة السوفييتية وأفكارها، ولكن روسيا التي ورثت الاتحاد السوفييتي، بخسارة عشرات الملايين من مواطنين باتوا خارج حدود بلدهم في دول غريبة، ما زالت تفتقد إلى أيديولوجية جامعة توحد الروس، وما زال رأسا النسر في شعار روسيا متنازعين بين الشرق والغرب، بينما لا يكف العالم عن استخدام الدب كرمز لروسيا بعد تحطم المنجل والمطرقة.