بعد مرور ثلاث سنوات على تنظيم إقليم كردستان العراق استفتاء الانفصال عن العراق، لا تزال أربيل تعاني من آثار وتبعات هذا الاستفتاء، سياسياً واقتصادياً وحتى جيوسياسياً، بعد خسارة نفوذها الأمني في كركوك ومدن وبلدات مختلفة شمالي البلاد لصالح بغداد.
وعلى الرغم من إصدار المحكمة الاتحادية المركزية في بغداد قراراً ببطلان نتائج الاستفتاء، إلا أن بعض الأحزاب الكردية لا تزال تتمسك بمخرجاته، وتعتبرها وثيقة رسمية يمكن العودة إليها في أي وقت، ولعل أبرزها "الحزب الديمقراطي الكردستاني" الحاكم في أربيل. ولم تصدر حكومة الإقليم أي قرار بإلغاء نتائج الاستفتاء وبطلانه، كما طالبت بغداد حينها، بل تجميده فقط، في حين يعترف سياسيون وحزبيون أكراد بأن الاستفتاء أدى إلى خسارة فادحة للإقليم على مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية، ولا سيما أنه جرى من دون موافقة الحكومة الاتحادية في بغداد، برئاسة حيدر العبادي آنذاك، الذي فوضه البرلمان العراقي بنشر قوات في كركوك وسنجار وشريط "المناطق المتنازع عليها" لاستعادتها إلى بغداد وإبعاد قوات البشمركة الكردية عنها.
لم تُصدر حكومة الإقليم أي قرار بإلغاء نتائج الاستفتاء وبطلانه
ووفقاً لحكومة إقليم كردستان، فإن الاستفتاء حظي بتأييد 93 في المائة من المصوتين الأكراد (بمشاركة 72.61 في المائة). وعلى الرغم من أن إجراءه أدى إلى حدوث شرخ عميق في العلاقة بين أكبر حزبين في الإقليم، وهما "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني"، فقد كان الأول صاحب الاندفاع الأكبر باتجاه الاستقلال، لكن الثاني كان يدرك أن نتائجه قد تكون عكسية وكارثية على الوضع في كردستان. وجراء ذلك فقد بلغت نسبة مشاركة أهالي مدينة السليمانية، وهي مركز نفوذ "الاتحاد الوطني" 55 في المائة، وهي نسبة ضئيلة قياساً بحجم المشاركة في أربيل.
واستذكر زعيم "الديمقراطي الكردستاني" مسعود البارزاني، الجمعة الماضي، الذكرى السنوية الثالثة لاستفتاء "استقلال" إقليم كردستان، بنشر تغريدة على صفحته في "تويتر" قائلاً فيها: "نحن لا ننحني"، مرفقاً تغريدته بصورة له وهو يحيي الجماهير عقب انتهاء خطابه يوم الاستفتاء، فيما اعتبر رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور البارزاني، يوم الاستفتاء تعبيراً عن إرادة شعبية أظهرت رغبة الشعب الكردي في الحرية.
وفي أربيل حيث عاصمة الإقليم، يتحدث سياسيون بأن توريطاً فرنسياً وآخر إسرائيلياً، في التشجيع على تنظيم الاستفتاء ورسم صورة مغايرة للواقع، دفع قادة الإقليم في التوجه نحو إجراء الاستفتاء. وحول ذلك، قال مسؤول في حزب "التغيير" المعارض في مدينة أربيل، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، إن مجموعة غربية، بعناوين مستشارين وباحثين، كانوا في الحقيقة أدوات استخدمتها فرنسا وإسرائيل لتوريط الإقليم، إضافة إلى دول أخرى مناكفة لإيران وتركيا مثل الإمارات والسعودية، معتبراً أن الإقليم يدفع حتى الآن ثمن تلك السذاجة. وأضاف أن البارزاني (مسعود البارزاني)، وهوشيار زيباري يتحملان مسؤولية الآثار المترتبة على الاستفتاء الذي لم تحسب عواقبه، بسبب قناعتهما بما كان يطرحه أصدقاؤهما الفرنسيون، وبطبيعة الحال لم تكن إسرائيل تحتاج دعوة للدخول على الخط وتشجيع الانفصال الكردي. واعتبر أن أنقرة وطهران لغاية الآن تتعاملان مع الإقليم بشكل مختلف عن تعاملهما معه قبل سبتمبر/أيلول 2017.
الأحزاب الكردية كانت تعتقد أن الإقليم سيحظى بتأييد عالمي
من جهته، قال القيادي في "الاتحاد الوطني الكردستاني" غياث السورجي، لـ"العربي الجديد"، إنه "يوم مشؤوم". واعتبر أن "من حق أي شعب في العالم أن يطالب بحق تقرير مصيره، وهذا لا خلاف فيه، ولطالما كان الشعب الكردي يطالب بالاستقلال، ولذلك نجد في أدبيات وأبجديات الأحزاب السياسية الكردية أن أبرز الملفات هو الاستمرار بالمطالبة إلى حين تحقيق حق تقرير المصير. لكن حتى هذه الأحزاب لا تعلم كيف تفسر هذا الحق، وهل أنه الاستقلال أم الفيدرالية أم الحكم الذاتي؟". واستذكر أن "الأحزاب الكردية كانت تعتقد أن تأييداً عالمياً سيحظى به إقليم كردستان، من قبل مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة وغيرها من الدول العظمى والاتحاد الأوروبي والدول العربية، إلا أن الإقليم لم يجد من يؤيده".
وعلى الرغم من الدعم الفرنسي والإسرائيلي الذي حصلت عليه حكومة إقليم كردستان آنذاك لترتيب أجواء الاستفتاء، إلا أن السورجي أشار إلى أن "هذا الدعم لم يورط إقليم كردستان، ولكن كان من المفترض أن يجري رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني آنذاك سلسلة من اللقاءات والمباحثات مع دول الجوار لتهيئة الأجواء للاستفتاء، والأهم هو الحصول على موافقة بغداد. ولو أن إقليم كردستان شاور الآخرين لكانت نتائج الاستفتاء على المستوى العملي أكثر إيجابية".
وبيّن أنه "لا يمكن تأسيس دولة كردية في ظل عدم وجود أي قنوات واقعية للتواصل مع العالم. ولعل أبرز العوائق أمام تحقيق هذا الحلم، هو غياب أي منفذ بحري للإقليم". وتابع أن "أحزاباً قليلة تؤيد حالياً العودة إلى ملف تقرير المصير، الذي قد يكون الحكم الذاتي أو الفيدرالي، إضافة إلى أن جميع جيران الإقليم يعادونه، وبالتالي فإن التفكير على الصعيد الواقعي يشرح فشل التجربة وخسارتها". وأكد أن "حزب الاتحاد الوطني الكردستاني كان يعلم مسبقاً نتائج الاستفتاء الكارثية على الأكراد، لكنه شارك في الاستفتاء كي لا تتم مهاجمته من الحزب الديمقراطي الكردستاني، وإذا أعيدت تجربة الاستفتاء في الوقت الحالي أو المقبل، فإنها لن تشهد مشاركة كبيرة على المستويين الشعبي الكردي والأحزاب الكردستانية".
من جهته، أكد عضو الحزب "الديمقراطي الكردستاني" عماد باجلان أن "الأحزاب الكردية أرادت حقوقها بعد عام 2003، وتم صياغة دستور 2005 بما يتناسب مع مصلحة جميع المكونات العراقية. إلا أن النظام السياسي العراقي الحديث لم يختلف عن نظام صدام حسين في التعامل مع الملف الكردي، فقد مارس سياسة الإقصاء والتهميش. ولعل أبرز عمليات التهميش التي استهدفت الأكراد هو ما كان من المفترض أن يحصلوا عليه في المؤسسات العسكرية. وعلى الرغم من أن الدستور نص على أن يحصل الأكراد على 20 في المائة، إلا أنهم لم يحصلوا حالياً إلا على 2 في المائة". ولفت، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الحكومات العراقية بعد عام 2003 لم تؤمن بالفيدرالية، بل إنها توجهت إلى إسقاطها، مثلما حدث في المناطق المتنازع عليها بعد إجراء الاستفتاء. لذلك كان الاستفتاء رداً على كل أشكال العدوان الذي تعرض له إقليم كردستان".
وأشار إلى أن "مسعود البارزاني لم يكن متفرداً برأيه في إجراء الاستفتاء وبقرار الاستقلال، بل توجه للشعب الكردي، وكان هناك المجلس الأعلى للاستفتاء الذي ضمّ كل الطوائف الكردية والعربية والكلدانية وغيرها القاطنة في الإقليم". واعترف بأن "الاستفتاء أدى إلى توتر العلاقة بين بغداد وأربيل، وبين إقليم كردستان ودول الجوار، إلا أن رئيس الحكومة العراقية السابق عادل عبد المهدي غيّر الكثير من هذا التوتر إلى أجواء إيجابية، وحتى زيارة رئيس الحكومة الحالي مصطفى الكاظمي الأخيرة إلى الإقليم أعادت بعض الثقة بين الجانبين، وهناك تطور نوعي بالعلاقات بين الإقليم والمركز، لكن يقابله توتر مستمر مع المليشيات الولائية التي تسعى للنيل بشكل دائم من مصالح الأكراد".
من جهته، بيَّن عضو البرلمان الكردستاني ريبوار بابكئي أن "الاستفتاء لم يكن يهدف للاستقلال، لكن السياسة الخاطئة للحكومات العراقية منذ عام 2005 حفزت الشعب الكردي نحو طريق الاستفتاء، وكان ممارسة ديمقراطية حضارية ومدنية. ولكن حكومة العبادي، بالتنسيق مع إيران وتركيا، حاولوا استغلال الموقف وتقزيم المكانة الدستورية لإقليم كردستان والتعامل معه على أنه محافظات ضمن الخريطة العراقية، وهو ما أدى إلى خسارة الإقليم لأكثر من 51 في المائة من أراضيه بعد إجراء الاستفتاء". وأوضح، في اتصال مع "العربي الجديد"، أن "الدور الفرنسي والألماني والإسرائيلي حال دون اقتحام الحشد الشعبي والمليشيات الموالية لإيران الأراضي الكردستانية الخاضعة لحكومة الإقليم. ولكن بطبيعة الحال فإن إجراء الاستفتاء لم يكن بدفع من جهة خارجية إنما هو إرادة كردية خالصة".
بدوره، رأى كفاح محمود، وهو كاتب وباحث متخصص بالشأن الكردي والعراقي، أن "إقليم كردستان لن يتراجع عن إجراء الاستفتاء في المستقبل، ولكن الفكرة تأجلت نظراً للظروف الإقليمية المعقدة من الاستفتاء السابق، وتحديداً المواقف التركية والإيرانية والأميركية". وبيّن، لـ"العربي الجديد"، أن "إقليم كردستان ينتظر أن تنضج العلاقات الكردية مع العراق أكثر، كما ترطيب الأجواء الدولية، لإجراء الاستفتاء. كما أن عدم توصل بغداد وأربيل إلى اتفاقات ناجعة لحل الخلافات قد يعجل من إجرائه مرة ثانية".