لا يختلف اثنان حول أن شخصية السنة الماضية في تونس بلا منازع كانت الرئيس قيس سعيد. هو يقف اليوم ضد الجميع تقريباً، لتنفيذ مشروعه السياسي الذي يبدأ بمنصة الاستشارة الإلكترونية وينتهي بانتخابات 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل. البقية بالنسبة إليه تفاصيل.
الاقتصاد بالنسبة للرئيس سعيد مسألة ثانوية، أو على الأقل لا يحتل الأولوية عنده في هذه المرحلة.
لا يعني أنه يستهين به، لكنه مشغول بدرجة أساسية بإعادة بناء النظام السياسي والدستوري، الذي يعتقد أن من شأنه أن يفتح المجال أمام تغيير الاختيارات الاقتصادية، وفي مقدمتها ما يقول إنه محاربة للفساد والتخلص من اللصوص وتحقيق العدالة الاجتماعية.
رفض اتحاد الشغل مسودة الحكومة السرية بشأن الإصلاحات الاقتصادية
بناء عليه، عملت حكومته على صياغة الميزانية الجديدة في ظرف وجيز من دون أن تكتمل بقية ملامحها، تاركة الباب مفتوحاً لنقاط استفهام عديدة. فمصير الاقتصاد عاد من جديد ليبقى رهن الاتفاق الذي قد تخلص إليه المفاوضات المقبلة مع صندوق النقد الدولي.
لكن أغلب خبراء الاقتصاد يستبعدون احتمال التوصل إلى اتفاق مع هذا الصندوق لاعتبارات عديدة، من بينها أن حكومة نجلاء بودن غير قادرة على إقناع الأطراف الأساسية داخل البلاد، وفي الخارج.
ولهذا السبب أعدت الحكومة مسودة بشكل سري، تنوي من خلالها التوصل إلى اتفاق بعيداً عن الأضواء، وتضع الجميع أمام الأمر الواقع.
غير أن منظمة "أنا يقظ" حصلت على الوثيقة وقامت بنشرها، وتضمنت "البرنامج الذي أعدته رئاسة الحكومة استعداداً للتفاوض مع صندوق النقد الدولي حول الاعتمادات المالية لسنة 2022 وصولاً إلى سنة 2026".
وذكرت المنظمة أن الوثيقة تضمّنت "الإصلاحات للخروج من الأزمة". وهو ما دفع بقيادة اتحاد الشغل، التي فوجئت بما ورد في هذا التسريب، إلى تأكيد رفضها شروط الصندوق مهما كان الثمن.
رهان سعيد على "الاستشارة الإلكترونية"
ويتقاطع ذلك مع ما لخصته صحيفة "نيويورك تايمز" التي عنونت مقالها عن تونس "ضغوط (قوية) على قيس سعيّد لإنقاذ الاقتصاد… لكنه منشغل بتعزيز سلطته".
وفي هذا السياق تندرج الاستشارة الإلكترونية التي أطلقت مطلع الشهر الحالي، والتي يراهن عليها الرئيس كثيراً، حتى بعد أن رفضتها معظم الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
واعتبرت الهيئة الإدارية لاتحاد الشغل أنه "لا يمكن أن تحلّ (الاستشارة الإلكترونية) محل الحوار الحقيقي لكونها لا تمثّل أوسع شرائح المجتمع وقواه الوطنية، فضلاً عن غموض آلياتها وغياب سبل رقابتها ومخاطر التدخّل في مسارها والتأثير في نتائجها".
يبدو أن سنة 2022 ستكون سنة المحاكمات السياسية بامتياز. وهو ما جعل المنظمات الحقوقية المحلية والدولية تصعّد من انتقاداتها، مما جعل المدير العام لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" كينيث روث، ينشر تدوينة اعتبر فيها أن ما يحدث في تونس "أسوأ من سنوات (الرئيس المخلوع زين العابدين) بن علي الديكتاتورية"، في تعليق له عن أن "الانتقاد للرئيس سعيد قد يؤدي إلى الملاحقة القضائية".
وفي هذا الإطار فوجئ الجميع باعتقال نائب رئيس حركة النهضة، نور الدين البحيري، بطريقة وصفها محاموه والحركة بكونها "عملية اختطاف أو اختفاء قسري".
وهي عملية مفتوحة على احتمالات عدة، تحديداً بعد الندوة الصحافية التي عقدها وزير الداخلية توفيق شرف الدين، منذ أيام، والتي خلفت وراءها مزيداً من الأسئلة ونقاط الاستفهام.
وبدت الندوة وكأنها خطوة أخرى في اتجاه التصعيد السياسي والأمني ضد حركة النهضة. كما أن ما جاء على لسان الوزير عمّق من شكوك المجلس الأعلى للقضاء، الذي وجد نفسه مضطراً لإصدار بيان جديد، أكد فيه مرة أخرى رفضه "مراجعة وإصلاح المنظومة القضائية بواسطة المراسيم" التي يصدرها رئيس الدولة. كما دعا القضاة إلى "مواصلة التمسك باستقلاليتهم".
إحالة 19 شخصية إلى القضاء
إلى جانب ذلك، تمّت إحالة 19 شخصية سياسية إلى القضاء من أجل جرائم انتخابية، من بينهم راشد الغنوشي ونبيل القروي، وحمة الهمامي والمنصف المرزوقي وغيرهم.
وهي قضية تتعلق بمخالفات قد تكون حصلت خلال الانتخابات الأخيرة (أُجريت في عام 2019)، لكنها يمكن أن تكون تمهيداً لإثارة مسألة "اللوبيينغ" (التمويل الخارجي لأحزاب تونسية)، التي لا يزال سعيد متمسكا بها من أجل إقصاء حركة النهضة من البرلمان، ومن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
"هيومن رايتس ووتش": ما يحدث في تونس أسوأ من سنوات بن علي الديكتاتورية
بعد أيام قليلة تحل الذكرى العاشرة للثورة (14 يناير/كانون الثاني) رغم شطبها من قبل رئاسة الجمهورية.
ويتوقع أن تكون هذه المناسبة مختلفة عن سابقاتها: إذ تجرى اتصالات حالياً بين أطراف عدة، من أجل بناء جبهة سياسية معارضة لما تسميه هذه الأطراف بـ"الانقلاب".
وإذا نجحت هذه الأحزاب والعائلات السياسية في تجاوز خلافاتها، وتحديد النقاط المشتركة في هذه المرحلة، فإن ذلك من شأنه أن يدخل البلاد في سياق جديد.
وبناء معارضة قوية نسبياً من شأنه أن يقلل من درجة الضبابية السائدة، ويعمّق عملية الفرز السياسي، ويجعل سعيد في وضع أضعف، على الرغم من تمتعه بثقة شعبية عالية. لكن في كل الحالات، يبقى الوضع الاقتصادي هو العامل الأكثر تأثيراً في التونسيين، خصوصاً أن مؤشر الأسعار لا يزال في صعود متواصل.