في موازاة مواصلة مساعيها لإحكام السيطرة على قوات النظام السوري من جيشٍ وأجهزة أمنية، تعمل روسيا أيضاً في سورية على فرض نفوذها في المناطق التي يغيب فيها النظام، أو التي تعتبر قواته فيها ضعيفة، عبر تشكيل مليشياتٍ محلية موالية لها، تستطيع من خلالها تنفيذ أجندتها على الأرض، ومقاومة نفوذ قوى أخرى، بما فيها حليفتها اللدودة إيران، التي لا تكف بدورها عن بذل الجهود للتمدد وتثبيت النفوذ، خصوصاً في شرقي البلاد. وحالياً، تشرف روسيا على تشكيلات عسكرية عدة في سورية، مثل "الفيلق الخامس" و"قوات النمر"، التي تتبع قاعدة حميميم الروسية في ريف اللاذقية مباشرة.
لكن الطريق إلى ذلك لم يكن مفروشاً بالورود، إذ كشفت صحيفة "نوفايا غازيتا" الروسية عن تفاصيل مقتل أربعة ضباط مخابرات روس في 1 فبراير/ شباط الحالي في سورية، قيل إنهم لقوا حتفهم في محافظة حلب، موضحة أن ضباط جهاز الأمن الفيدرالي الروسي زاروا سورية لتأمين لقاء كان من المقرر أن يجمع بين شخصيات سورية وتركية رفيعة المستوى في مدينة كسب على الحدود السورية ـ التركية، مشيرة إلى أن عدداً قليلاً من الأشخاص كان يعلم بوجود الروس في سورية، وأن مقتلهم يدل على أن جهة ما سعت لإفشال اللقاء التركي السوري الرفيع.
ووفقاً لمعلومات تم نشرها في وسائل الإعلام السورية الموالية للحكومة وشبكات التواصل الاجتماعي الروسية، قتل الضباط بالقرب من مدينة حلب. وادّعت تلك الوسائل أن المسلحين أرسلوا أربع مركبات مدرعة مع مفجرين انتحاريين إلى المدينة، كان انفجارها بمثابة إشارة إلى هجوم واختراق في مناطق حواجز الطرق التي تدافع عنها وحدات من النظام والمليشيات. واستغربت الصحيفة الروسية مشاركة ضباط في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي من فرع العمليات الخاصة، وهم الرائد بولات أخميانوف والرائد روسلان غيميديف، والنقيب ديمتري مينوف، والملازم أول فسيفولود تروفيموف، في عمليات ميدانية سورية، هي من اختصاص الجيش الروسي واستخباراته، ناقلة عن مصادرها الخاصة أن الضباط الأربعة زاروا سورية الشهر الماضي لتأمين زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى دمشق. وأوضحت مصادر الصحيفة أن الضباط القتلى كانوا متخصصين واحترافيين من الدرجة الأولى، موضحة أنه جرى استخدامهم لتعزيز وحدات النظام التي تخوض معارك محلية.
ومما يعزز الشكوك أيضاً، تجاهل التقارير الرسمية لرئيس مركز المصالحة اللواء يوري بورنكوف الحادثة. ونقلت الصحيفة الروسية عن مصادرها تأكيدهم أن ضباط المخابرات الروسية الأربعة لم يقتلوا في حلب، ولكن في محيط مدينة اللاذقية، التي تسيطر عليها بالكامل القوات الموالية للنظام، والتي يتجول فيها الجنود والسياح الروس من دون حراسة مسلحة. وأشار المصدر إلى أن الضباط الروس وقعوا في كمين نصبه لهم مسلحون يعرفون مسبقاً الطريق الذي سيسلكه الروس، وزرعوا لغماً أرضياً، وقاموا بتشغيله عن بُعد عندما كانت السيارة المدرعة التي تقل الضباط فوقه. وبعد الانفجار، تم إطلاق النار على الضباط الذين أصيبوا بصدمة انفجارية من مسافة قريبة في القلب وفي الرأس. لذلك، تم إرسال جثث القتلى إلى روسيا في توابيت مغلقة. وتساءلت الصحيفة عن هدف مهمة الضباط الروس، لا سيما في محافظة اللاذقية وكانوا في "رحلة عمل سرية"، عرف بها عدد قليل من السوريين. وافترضت الصحيفة أن تكون العملية ضد الروس بمثابة خيانة، الأمر الذي أكده مصدر الصحيفة قائلاً "تمت خيانتهم بهدف تصعيد الحرب".
وفقاً لمصادر الصحيفة، فقد تم الإعداد لعقد اجتماع بين كبار قادة سورية وتركيا على الحدود التركية السورية، بالقرب من مدينة كسب. وطلبت سورية من روسيا المساعدة في ضمان أمن هذا الاجتماع، لذلك تمّ إرسال الضباط الأربعة. ورأت الصحيفة أنه في ليلة 3 فبراير الحالي، فتحت قوات النظام نيران المدفعية على القوات التركية في منطقة إدلب. وقُتل ثمانية أشخاص وأصيب سبعة جنود أتراك. ومن المحتمل أن يكون أمر فتح النار على الجنود الأتراك وتصفية ضباط المخابرات الروس قد صدر من جهة واحدة، هي "حزب الحرب" المحيط ببشار الأسد
دعم مليشيات في حلب
ومنذ سقوط الجزء الشرقي من مدينة حلب بيد قوات النظام، نهاية العام 2016، عملت روسيا على بسط نفوذها في هذه المدينة، بعدما استشعرت خطر السيطرة الإيرانية التي كانت واضحة على غربي المدينة، بما في ذلك أرياف حلب بشكل عام، خصوصاً أن إيران ومليشياتها كانوا دخلوا الحرب السورية منذ العام 2012، أي قبل دخول الروس بسنوات، وتمكنوا من بناء مرتكزات لأنفسهم في أنحاء مختلفة من البلاد. وفي إطار محاولاتها هذه، دعمت روسيا مبادرة "مليشيا آل بري" للسيطرة على الأحياء الشرقية من حلب، واتخذت قواتها موقف المتفرج، حين هاجمت هذه المليشيا مقرات لمليشيات أخرى في أحياء حلب القديمة، وطردتها منها.
تمدد شرقي الفرات
وفي مناطق شرق الفرات، سعت روسيا بعد انسحاب القوات الأميركية من العديد من المناطق، إلى الحلول مكانها، عبر سلسلة اتفاقات عقدتها مع الأطراف المعنية. وكانت أولى خطوات موسكو في هذا الاتجاه، رعاية اتفاق بين النظام السوري و"الإدارة الذاتية" الكردية، في 13 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، يقضي بانتشار قوات النظام في مناطق على الحدود السورية - التركية لمنع تقدم القوات التركية. وعلى ضوء هذا الاتفاق، تمكن النظام السوري من الانتشار في مدن ومناطق عين العرب، تل تمر وعين عيسى، فيما ذكرت وسائل إعلامه أنها دخلت أيضاً إلى مدن منبج والرقة والطبقة، إلا أن مصادر مستقلة لم تؤكد ذلك.
وفي موازاة انتشار النظام، دخلت قوات روسية إلى قواعد أميركية أُخليت في شمال شرقي سورية، كقاعدة السعدية في منبج، وخراب عشق في عين العرب بريف حلب، وقصر يلدا في ريف الحسكة. لكن أهم المكاسب التي حققها الروس في شرق الفرات، هو ازدياد نشاطهم في مطار القامشلي في الحسكة، الذي زودوه بالعديد من المروحيات، وسط حديث عن نيّة موسكو جعله قاعدة عسكرية لها في المنطقة، خصوصاً بعد إقدامها في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، على نقل منظومات من الدفاع الجوي وطائرات حربية من قاعدة حميميم العسكرية إليه.
كما تضمّن الاتفاق الذي وُقّع في 22 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بين الرئيسين التركي والروسي، رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، بشأن إيقاف العملية التركية داخل الأراضي السورية، بنوداً عدة، من بينها سحب كل القوات الكردية من الشريط الحدودي مع سورية بشكل كامل، بعمق 30 كيلومتراً، إضافة إلى سحب أسلحتها من منبج وتل رفعت، وتسيير دوريات تركية - روسية بعمق عشرة كيلومترات على طول الحدود، باستثناء القامشلي، مع الإبقاء على الوضع ما بين مدينتي تل أبيض ورأس العين. وتعزز هذه الخطوة الوجود الروسي أكثر في منطقة شرق الفرات، حيث باتت ترسل بين الحين والآخر قوات ومعدات إضافية إلى هناك، ما زاد في حجم قوتها وانتشارها، فيما أعلن المتحدث باسم قيادة مجموعة القوات الروسية في سورية، اللواء إيغور سيريتسكي، أن موسكو ستنشئ قاعدة لها في مدينة عين العرب شمال شرق سورية.
وبغية تدعيم وجودها في منطقة شرق الفرات، شرعت روسيا أخيراً في تشكيل مليشيا محلية من أبناء بعض المناطق في ريف الحسكة، لمساعدتها على إحكام قبضتها. وبحسب وكالة "الأناضول" التركية، فإن المرحلة الأولى من المشروع تتضمن تجنيد 400 شاب، مشيرة إلى أن "وحدات حماية الشعب" هي من سيتولى تدريبهم على مختلف أنواع الأسلحة بإشراف روسي. وذكرت الوكالة أن مهمة المليشيا ستكون مبدئياً حماية القواعد والنقاط العسكرية الروسية ومرافقتها خلال التجول في المنطقة، مشيرة إلى أن روسيا بدأت في توسيع نقطتيها العسكريتين في تل تمر وعامودا، عبر إرسال عربات مصفحة ومروحيات إسعاف، متوقعة أن تصل العشرات من البيوت المسبقة الصنع إلى النقطتين.
وفي السياق أيضاً، ذكر مراسل "العربي الجديد" في شرقي الفرات، أن الروس افتتحوا مركزين لتسجيل أسماء الراغبين بالتطوع في مليشيا على غرار "الفيلق الخامس" الذي كانت روسيا أنشأته في الجنوب السوري عام 2018، وذلك في مطار القامشلي وحارة الطي وعامودا. كما افتتحوا مركزاً في مبنى "قوات حماية المرأة" في الدرباسية بالقرب من مركز المدينة الجنوبي، وفي محطة الأبقار ببلدة تل تمر غرب الحسكة. وأوضح المراسل أن روسيا تدفع نحو 200 دولار كراتبٍ شهري لكل متطوع، مشيراً إلى أن الكثير من منتسبي "الدفاع الوطني" وكتائب "البعث" و"الأنصار" التابعين للنظام بدأوا بتقديم استقالاتهم، بغية الالتحاق بالمليشيا المدعومة من روسيا، لافتاً إلى أنه جرت لقاءات غير معلنة بين ضباط روس وشخصيات عشائرية عربية، حث فيها الضباط الروس العشائر على القيام باحتجاجات وتظاهرات ضد "الادارة الذاتية " و"قسد".
من جهتها، قالت مصادر من الأحزاب الكردية المعارضة للإدارة الذاتية، إن القوات الروسية المنتشرة في مدينة عامودا وبلدة تل تمر، فتحت باب التجنيد للشبان هناك برواتب غير ثابتة تصل إلى 150 ألف ليرة سورية، للعمل مع تلك القوة المزمع إنشاؤها، حيث تمركزت قوة روسية مرافقة مع بعض المدرعات العسكرية في الثانوية المهنية في مدينة عامودا، التي كانت مركزاً لوحدات حماية المرأة. وأشارت المصادر أن الروس اتخذوا فيلا "غاندي قرموطي"، التي تقع غربي مدينة قامشلي، مقراً خاصاً بهم، بينما أشار ناشطون إلى أن القوات الروسية اشترت المبنى المملوك لقرموطي بمبلغ 600 ألف دولار.
ويرى مراقبون أن روسيا تسعى إلى تثبيت نفوذها في منطقة شرق الفرات عبر هذه المليشيات التي يرجح أن تتمتع بنفوذ وصلاحيات أقوى من تلك التي تتبع لقوات النظام والمليشيات الموالية له، خصوصاً أن موسكو لا تثق بمليشيات "قسد" كون قرارها أميركياً. وكذلك يخشى الروس منح كامل الصلاحيات للنظام ومليشياته خوفاً من ولائها الإيراني وتحسباً للرفض التركي، وبالتالي فهي وجدت أنه من الأنسب لها إنشاء هذه المليشيات، لحماية نفوذها ومصالحها في المنطقة.
ورجح الإعلامي سالم الأشهب، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن تقتصر مهام هذه المليشيات في المرحلة الراهنة على المنطقة الحدودية، لتحل مكان "قسد" المنسحبة من تلك الحدود بعمق 30 كيلومتراً، لضمان وجود فصل بين الأخيرة والقوات التركية، خصوصاً أنها (المليشيات الروسية) ستتكون غالباً من العشائر العربية، والقوميات الأخرى، ولكن ليس من الأكراد، وسيكون ولاؤها خالصاً لموسكو. ورأى الأشهب أن مهام هذه المليشيات قد تتطور لاحقاً، لتسهم في فرض سيطرة الروس وقوات النظام على بعض الموارد الاقتصادية شرقي الفرات.
إيران تعزز مليشياتها
وفي خط مواز، أشارت مواقع إعلامية وشبكات محلية إلى أن إيران تسعى بدورها إلى تأسيس مليشيا تابعة لها في مناطق متفرقة من ريف دير الزور. وبحسب "شبكة دير الزور 24"، فإن تبعية الفصيل الذي يحمل اسم "جيش القرى" تعود بالدرجة الأولى إلى إيران. وقد تم تسجيل 100 متطوع في هذه المليشيا التي تتشكل من لجان ستنتشر في ريف دير الزور، لتكون بديلاً عن مليشيا النظام في المنطقة.
لكن شبكة "فرات بوست" المحلية ذكرت في وقت سابق أيضاً أن أعداد المنتسبين للمليشيات الإيرانية تراجع أخيراً، على الرغم من الإمكانات التي توفرها هذه المليشيات من دعمٍ لوجستي ومادي للمنتمين إليها، مشيرة إلى أن الوضع الاقتصادي لـ"الحرس الثوري" الإيراني انعكس على واقع عناصرهم المادي، ورواتبهم. وأضافت الشبكة أن السبب الاقتصادي يعد أهم دوافع المنتسبين إلى المليشيات الإيرانية من العناصر المحليين، وذلك بسبب تردي الوضع المعيشي في المنطقة، وصعوبة الحصول على عمل. ومع ذلك، فقد تأثر هذا العامل خلال الأشهر الماضية، بحسب الشبكة، بالتطورات في سورية وإيران بشكل عام.
ويشكل العناصر المحليون نسبة 30 في المائة من تكوين المليشيات الإيرانية. ولكن مع تراجع الدعم المادي المقدم لهم، لجأ بعض هؤلاء إلى التعدي على معونات للمدنيين كما حصل في مدينة البوكمال منذ أيام، بحسب "فرات بوست".