وآخر تجليات الخلاف بدأ منذ الخميس الماضي، حينما تصدّت الشرطة لتظاهرات في الخرطوم، خرجت للمطالبة بإعادة هيكلة القوات المسلّحة، والتنديد بإحالة ضباط للتقاعد، وهم من الداعمين للثورة التي أطاحت بالبشير، فيما كانت حصيلة ذلك التصدي إصابة عشرات المدنيين، بعضهم أصيب بالرصاص الحي، حسب تقارير لجنة الأطباء المركزية.
ردة فعل الشرطة وجد استنكاراً واسعاً في صفوف الثوار والأحزاب السياسية وتحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" الحاكم، وجميعهم أكدوا على أنّ هذا التصرف يتنافى مع مبادئ الثورة، ومبدأ حق الجميع في التعبير والتجمع. ومع هذا الرأي الجماعي، خرجت الحكومة ببيان في اليوم نفسه، تماهت فيه مع الموقف، ودانت ما اعتبرته استخداماً مفرطاً للقوة في تفريق المتظاهرين، ووعدت بالتحقيق في ما جرى ومحاسبة المتسببين به.
غير أنّ البيان الحكومي لم يجد الرضا الكافي وسط الثوار الذين واصلوا، يوم الجمعة، التعبير عن موقفهم بإقامة المتاريس والحواجز في الشوارع، ليضطر رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لإصدار بيان تهدئة بنفسه، يدين فيه العنف المفرط ضد المتظاهرين في عهد حكومة قال إنّ الحراك الجماهيري جاء بها، وأعلن تشكيل لجنة تحقيق عليا برئاسة النائب العام، على أن ترفع نتائج تحقيقاتها خلال أسبوع واحد فقط.
لكن الشرطة، وفي بيان يشي بعدم الرضا عن مواقف القوى السياسية والتحالف الحاكم وحكومة حمدوك، أصدرت بياناً نفت فيه استخدامها للرصاص الحي للتعامل مع التظاهرة التي قالت إنها خرجت عن سلميتها بقيام مندسين بأعمال شغب والتعدي عليها بالحجارة، مشيرة إلى أن 60 شرطياً أصيبوا في الأحداث.
وسرعان ما وجد موقف الشرطة مساندة من المكون العسكري في مجلس السيادة، حيث خرج عضو المجلس الفريق أول شمس الدين الكباشي، ليؤكد على حق المؤسسات العسكرية في الإحالة للتقاعد وفقاً لقوانينها، ومبدياً أسفه لحدوث إصابات في صفوف المواطنين والشرطة. ولفت إلى أنّ مصابي الشرطة لم يذكرهم أحد في البيانات التي صدرت، رغم أنّ الشرطة كانت تؤدي دورها وفقاً للقوانين، مضيفاً أنّ هناك محاولات كبيرة لاختراق المؤسسات الأمنية والعسكرية عبر جهات كثيرة، لم يسمها، ما يعرّض، حسب قوله، البلاد والثورة للخطر، مشدداً على إبعاد تلك المؤسسات الأمنية عن السياسية.
ولم ينته الأمر عند ذلك، بل بادر المكون العسكري إلى الدعوة لاجتماع لمجلس الأمن والدفاع، ناقش أحداث العنف التي صاحبت موكب الخميس، وفيه استمع لوجهة نظر الشرطة حول ما جرى، بينما خرج الاجتماع بتكوين لجنة فنية تنعقد قبل فترة محددة لتقييم الأحداث التي يمكن أن تقود إلى تداعيات مماثلة لتجنبها.
ورغم حالة التهدئة الظاهرية، ربما تتجدد بعدها المواجهة بين المكونين العسكري والمدني، خلال اليومين المقبلين، لا سيما إذا خرجت لجنة التحقيق التي شكلها رئيس الوزراء بنتائج تحمل الشرطة المسؤولية، أو إذا اتجه رئيس الوزراء لإقالة وزير الداخلية المعين من قبل المكون العسكري، أو حتى إذا أقال مدير الشرطة.
القضية الثانية التي تباعد بين المكونين العسكري والمدني، هي قضية التطبيع مع إسرائيل، والتي برزت حينما بادر رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان منفرداً بلقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في الثالث من الشهر الجاري، بمدينة عنتبي الأوغندية، وهو اللقاء الذي عارضت نتائجه، من حيث الشكل والمضمون، حكومة رئيس الوزراء وخلفها تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" الحاكم، باعتباره تجاوزاً لها بحجة أن مجمل عملية إدارة العلاقات الخارجية من صميم صلاحياتها وحدها، كما عدت اللقاء مخالفاً لمبادئ السودان في التعامل مع إسرائيل.
ومن الخطأ بمكان الاعتقاد بأنّ الخلاف قد طُوي ببيان البرهان، الذي أصدره بعد يوم من اللقاء الذي أقر فيه بالخطأ، ذلك لأنّ الرجل حصل بعدها على دعم من الجيش السوداني الذي أصدر هو الآخر بياناً مؤيداً للخطوة، فضلاً عن إصرار البرهان في تصريحات لاحقة على صحة موقفه.
وحسب كل التوقعات، فإنّ الملف سيفتح من جديد إذا اكتملت زيارة البرهان للولايات المتحدة الأميركية، في الأيام المقبلة، بعد الدعوة التي وجهها إليه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، قبل يوم من لقائه بنتنياهو، خلال اتصال هاتفي، ومن المتوقع أن تشجع واشنطن البرهان على المضي قدماً باتجاه التطبيع مع إسرائيل، وهذا ما قد يجد معارضة من المكون المدني: حكومة وتحالفاً حاكماً.
أما القضية الثالثة، والتي تفتح الباب واسعاً أمام الخلاف بين المكونين، فهي الطلب الذي تقدم به رئيس الوزراء عبد الله حمدوك للأمم المتحدة لتشكيل بعثة سياسية لمراقبة الفترة الانتقالية في السودان، بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، وكذلك مراقبة عملية السلام وإعادة النازحين واللاجئين، والمساعدة في عمليات الإصلاح الاقتصادي والقانوني وغيرها من مهام واردة في الطلب. وحسب المعلومات، فإنّ المكون العسكري يعارض خطوة مثل هذه، من حيث المبدأ، ومن حيث عدم استشارته فيها.
وتتمثل نقطة الخلاف الرابعة، والتي لم تتضح معالمها بعد، في موضوع تسليم الرئيس المعزول عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية، ليواجه اتهامات وجهتها إليه المحكمة منذ العام 2009 بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، فبعدما أعلن الوفد الحكومي المفاوض مع حركات الكفاح المسلح في دارفور، موافقته على مثول البشير وبقية المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية أمام المحكمة، برزت تصريحات أغلبها من المكون العسكري تلمح إلى أنّ الخطوة لا تعني تسليم البشير الذي كان قائداً عاماً للجيش لثلاثين عاماً، وتشدد على فرضية التعاون مع المحكمة وإمكانية محاكمته بالداخل، وهو سجال ربما استمر لأطول فترة، في ظل تشدد حركات الكفاح المسلح والضحايا على التسليم كخيار وحيد.
والقضية الخامسة تتمثل في الخلاف بشأن الصلاحيات، وهو ما توضح من خلال حوار تلفزيوني لنائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي"، وهو يشتكي من غياب روح الشراكة مع بداية تشكيل أجهزة الحكم الانتقالي. ويستشهد دقلو بالأزمة الاقتصادية والصعوبات المعيشية التي يعاني منها المواطن، مبيناً رغبة المجلس في مساعدة الحكومة في هذا الملف، لكنه يصطدم برفض أصوات في "قوى إعلان الحرية والتغيير"، التي ترى أن ذلك ليس من صلاحيات مجلس السيادة.
كما اتهم دقلو بعض القيادات السياسية، ضمن تحالف "الحرية والتغيير"، بالهجوم على الإمارات والسعودية، وشتمهما ليلاً ونهاراً، برغم أن الدولتين، وحسب قوله، دعمتا البلاد بعد الثورة بمبلغ مليارين ونصف مليار دولار، بالإضافة إلى وديعة بمبلغ 500 مليون دولار لبنك السودان المركزي.
وأعطى كلام دقلو في مجمله مؤشرات قوية على الحواجز الفاصلة بين المكونين العسكري والمدني، ما دفع الجميع إلى دق جرس الإنذار للتنبيه للمخاطر الناتجة عن ذلك على الفترة الانتقالية الهشة بكل المقاييس.