قيس سعيّد وراشد الغنوشي: لمن الغلبة؟

26 فبراير 2020
يعتبر الكثر أن الغنوشي هو الحاكم الفعلي(الشاذلي بن ابراهيم/Getty)
+ الخط -


أكد رئيس البرلمان التونسي، رئيس حركة النهضة، الشيخ راشد الغنوشي أمام رؤساء المكاتب الجهوية لحركة النهضة أن "عهد السلطة المركزية انتهى وأن ذلك لا يعني تشتيت الحكم". وأضاف أن الدستور حدّد صلاحيات الرئاسات الثلاث ووزع السلطة والحكم بين قرطاج (رئاسة الجمهورية) والقصبة (رئاسة الحكومة) وباردو (رئاسة البرلمان)، لكن "الدولة لها رأس واحد كما قال الرئيس (قيس سعيّد)"، بحسب الغنوشي. وقصد الغنوشي استخدام مصطلح "للدولة رأس واحد"، لأن سعيّد قالها حين تسلّم قائمة التشكيلة الحكومية من رئيس الحكومة المكلف إلياس الفخفاخ، واعتبر أيضاً خلال المناسبة نفسها أن "عهد الدولة داخل الدولة قد انتهى"، وأن "تونس ستدخل مرحلة جديدة بتصور جديد". واعتماداً على هذين التصريحين، يكون الخلاف بين سعيّد وحركة النهضة قد أصبح علنياً ومباشراً، خصوصاً أن بعض قادة الحركة رأوا في كلام الرئيس "محاولة للانحراف بنظام الحكم".

مع العلم أنه منذ اللحظة الأولى التي أُعلن فيها فوز سعيّد بمنصب رئاسة الجمهورية أصيبت الطبقة السياسية التونسية بحيرة شديدة. لا يعود ذلك فقط إلى الفوز الساحق الذي حققه هذا الأستاذ الجامعي صاحب الماضي السياسي المعروف لدى الناس، بل لما يحمله من أفكار عبّر عنها خلال حملته الانتخابية، والتي تتعارض مع المسار الذي تم اختياره بعد الثورة ودخل حيز التنفيذ منذ صياغة الدستور.

ظنّت الطبقة السياسية أن سعيّد قد تخلى عن أفكاره التي يعتبرها الكثيرون "طوباوية" بعد دخوله قصر قرطاج، وبدا للجميع وكأنه تكيف مع الوضع القائم، لكن تصريحاته الأخيرة فاجأتهم من جديد، وفهموا منها أن الرجل لا يزال متمسكاً بقناعاته، بل يحاول عملياً تمهيد الطريق للشروع في تغيير جوانب أساسية في النظام السياسي قبل تغيير الدستور، وقبل تنظيم انتخابات موازية للبرلمان من أجل الإطاحة بهيئته الحالية، وتقليص دور الأحزاب التي يعتبرها سعيّد كيانات قد استنفدت غرضها.



وطالما اعتقد التونسيون بأن "صاحب القرار في البلاد" قد انتهى، إلا أنه طفا على السطح مرة أخرى، علماً أن ما تم التعارف عليه هو حسم دستور 2014 الخلاف بين الأحزاب لصالح النظام البرلماني على حساب الصيغة الرئاسية، وقبل الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، بذلك. والصحيح أن الأخير تقبّل على مضض بفعل إشارته مرات عدة قبل وفاته إلى رفضه هذه الصيغة التي تجعل الرئيس المُنتخب بشكل مباشر من الشعب حاملاً لصلاحياتٍ قليلة أو محاصراً من صلاحيات رئيس حكومة معيّن من قبل حزب أو مجموعة أحزاب. مع ذلك قبل باللعبة، ورفض الانقلاب على الدستور نظراً لكونه مصدر شرعية الرئيس.

غير أنه خلافاً للمرزوقي وقائد السبسي، رفض سعيّد هذا الوضع، مع إعلانه بأنه سيحكم وفق ما أطلق عليه "صيغة جديدة للحكم". وهي صيغة ستقحمه بالضرورة في صراع مباشر مع الأحزاب سواء القريبة منه أو البعيدة. وقد وجد المدخل الذي من شأنه أن يسمح له بذلك، المتمثل في قبول الفخفاخ "التنازل" عن صلاحياته الدستورية باعتباره مدينا لرئيس الجمهورية الذي اختاره للقيام بهذه المهمة، رغم أن حزبه فشل في الدخول إلى البرلمان، ورغم عجزه شخصياً عن الفوز في الانتخابات الرئاسية.

لم تكن حركة النهضة مطمئنة منذ البداية لشخصية سعيّد، بل كانت لدى الغنوشي حسابات أخرى تهاوت في الطريق. بناء عليه حاولت الحركة أن تستوعب الرجل من خلال التصويت له خلال الجولة الثانية في الانتخابات الرئاسية، ثم محاولة الاقتراب منه بعد ذلك. واليوم تشعر بالخطر الذي يهددها بشكل مباشر. فهي التي فرضت النظام البرلماني، وهي التي دافعت عن تعدد الأحزاب، وحافظت على وضعيتها "حزباً أول" في البلاد رغم تراجع شعبيتها، وهي الآن تترأس السلطة التشريعية من خلال الغنوشي الذي يعتقد كثيرون في الداخل والخارج بأنه الحاكم الفعلي، في صوغ التحالفات، واستقبال سفراء الدول الصديقة، ومحاورة الوفود الشعبية والهيئات المدنية. بالتالي إن النهضة ليست مستعدة لتتنازل عن كل ذلك، وتقبل بأن يكون موقعها ضعيفاً أو هامشياً داخل هذا التصور الجديد للحكم الذي يسعى رئيس الجمهورية إلى تحقيقه تحت شعار "الشعب يريد".

ستعبر حكومة الفخفاخ رغم المخاوف حول إمكانية سقوطها، فحركة النهضة تعمل حالياً بقوة لتمريرها، لا حباً في حزب قلب تونس المعارض، بل خوفاً من تفرّد رئيس الجمهورية بالقرار ورسمه ملامح المستقبل السياسي للبلاد منفرداً. لقد أدركت النهضة أن عدم التصويت على حكومة الفخفاخ من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه أمام سعيّد كي يحل البرلمان، ويدعو إلى انتخابات مبكرة. وخلالها، في انتظار البرلمان الجديد، سيعمد رئيس الدولة انطلاقاً من صلاحياته إلى أن يحكم تونس عبر المراسيم التي سيصدرها، والتي من شأنها أن تغير ملامح كثيرة في النظام السياسي. هذا الاحتمال جعل النهضة تراجع التكتيك الذي كانت ستقدم عليه، من خلال استصدار لائحة لوم ضد رئيس الحكومة المنتهية ولايته يوسف الشاهد من أجل إزاحته من جهة وعدم تسمية الفخفاخ من جهة أخرى، بغية تقديم مرشح جديد لتشكل حكومة أخرى تكون هي وراءها.